عبدالحي العراقي لـ"العرب": على المخرجين الانفتاح على الأحداث لأنها ذاكرة ومرجع تاريخي للأجيال المقبلة

السينما التاريخية تبرز النضال والهوية والتحولات الاجتماعية والسياسية.
السبت 2025/10/04
عدسة توثق نضال المغاربة من أجل الاستقلال

عبدالحي العراقي من أبرز السينمائيين المغربيين الذين يشتغلون على استعادة الذاكرة الجماعية المغربية من خلال أفلام تتقاطع فيها البساطة البصرية مع العمق الإنساني والتاريخي، حيث يعيد سرد لحظات مفصلية من تاريخ المغرب، مستخدما صورا واقعية وأجواءً نابضة بهوية مغربية، ليمنح المتفرج تجربة بصرية مثيرة تذكره بجذوره وتروي له التاريخ بكثير من الإبداع.

تحتاج السينما المغربية اليوم أن تلعب دورًا مركزيًا في تأريخ الأحداث السياسية والاجتماعية التي شكلت مسار المغرب وهويته الوطنية، انطلاقا من أن الأفلام أصبحت وسيلة أكاديمية لقراءة التاريخ بصريًا، لتمكن الباحثين والجمهور المثقف من استيعاب ديناميكيات المقاومة الشعبية، وفهم عمق تضحيات المغاربة في مواجهة الاستعمار والسياسات القمعية.

ويمكن للسينما المغربية أن تطور منهجية سردية دقيقة تجمع بين الواقعية التاريخية والبعد الفني، لتوثيق الشخصيات الفاعلة والأحداث المفصلية التي أسهمت في بناء الدولة الحديثة. ومن خلال إبراز دور الفئات الشعبية، من الطلاب والنساء إلى الأطفال والفئات المهمشة، يتبين أن المقاومة كانت حركة جماعية تعبر عن طبيعة النضال الشعبي وارتباطه بالتحولات السياسية والاجتماعية.

وتساهم الأفلام التأريخية في تقديم الوقائع بصرامة نقدية، مع الحفاظ على بعدها التربوي والثقافي، بحيث تصبح أداة لتعزيز الوعي بالهوية الوطنية وترسيخ الذاكرة الجماعية. وتتيح هذه الأعمال للأجيال الجديدة فهم الروح الوطنية التي استمرت عبر الأجيال، وتقدير الجهود والتضحيات التي قامت بها فئات المجتمع المختلفة، مؤكدة أن السينما إطار نقدي لتحليل النضال السياسي والاجتماعي وفهم التاريخ المغربي.

عبدالحي العراقي:  السينما توثق الذاكرة الوطنية وتخلدها
عبدالحي العراقي:  السينما توثق الذاكرة الوطنية وتخلدها

في هذا السياق كان لـصحيفة “العرب” حوار مع المخرج المغربي عبدالحي العراقي. يؤكد المخرج المغربي أن السينما توثق الذاكرة الوطنية وتخلدها، مشددا على أن إصلاح التعليم أولوية قبل أي إصلاح آخر.

وكشف العراقي انتهاءه من تحضير فيلم تلفزيوني جديد يتناول قصة اجتماعية تدور حول رجل يتزوج من امرأتين، مؤكدا أنه لا يؤيد هذه الفكرة وسيعالجها من زاوية نقدية داخل سياق درامي سيعرض على الشاشة الصغيرة.

وأوضح أن نقل الأحداث الراهنة إلى السينما يظل مهمة صعبة في غياب الفكرة المناسبة وصعوبة الحصول على التمويل الكافي لإنجاز المشروع، مشددا على أن السينما هي حضارة تبقى في الأرشيف.

وأشار المخرج في حديثه إلى ضرورة أن ينفتح المخرجون المغاربة على الأحداث الكبرى والمصيرية، لأنها تشكل ذاكرة وطنية ومرجعا تاريخيا للأجيال المقبلة.

واعتبر العراقي أن الاحتجاجات التي يقودها “جيل زد” تعكس حاجة الشعب إلى التعبير عن حقوقه، والأولوية اليوم يجب أن تمنح لإصلاح التعليم، خاصة في ظل هيمنة المدارس الخاصة وارتفاع تكاليفها.

وكشف المخرج عن تفاصيل فيلمه التاريخي “55”، مشيرا إلى أنه فكر فيه لأكثر من أربعين سنة قبل أن يستقر على الفكرة النهائية التي قادته إلى إنجازه، حينما استعاد من خلاله أحداث الخمسينات من القرن الماضي، وتحديدا يوم عيد الأضحى الذي ألغي بسبب ظروف المقاومة وانتظار عودة الملك محمد الخامس.

وأبرز العراقي أن الهدف من الفيلم هو تعريف الأجيال الجديدة بما عاشه المغاربة خلال فترة المقاومة، وكيف كافح الشعب من أجل الاستقلال، مؤكدا أن المغاربة لم يأتوا من فراغ بل ينتمون إلى حضارة راسخة وشعب واعٍ بتاريخه.

وعرض المخرج في حديثه لـ”العرب” مختلف المستويات التي يطرحها الفيلم، من بينها الوضع الاجتماعي المتجلي في العادات والتقاليد واللباس والعلاقات الأسرية، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي والتلاحم الشعبي.

حح

وأوضح أن الفيلم ركّز أيضا على فترة نفي الملك محمد الخامس إلى مدغشقر، مركزا على شخصية “لالة فاطمة” التي جسدتها مجيدة بنكيران، والتي جسدت الحس الوطني للأسرة المغربية وعلاقتها بالملك والوطن.

وأكد المخرج أن الفيلم استطاع أن يحافظ على عرضه في دور السينما رغم طبيعته غير التجارية، وهذا يبرهن على تعطش الجمهور للأعمال التي تبرز ذاكرته وتاريخه الوطني.

وجاء فيلم “فاس صيف 55” للمخرج عبدالحي العراقي ليكشف مرحلة مهمة ومصيرية من تاريخ المغرب، تاريخ قد يبدو مجهولا لدى البعض وغامضا لدى آخرين. إذ روى الفيلم عبر حكاية متخيلة قصص انتزاع المغاربة لحريتهم واستقلالهم عن الاستعمار الفرنسي وأبرز الأحداث التي عاشها البلد آنذاك، ليقدم تجربة وطنية تجمع بين التاريخ والخيال السينمائي.

وتعد السينما التأريخية وسيلة قوية لسرد الأحداث التاريخية وتوثيق اللحظات الفارقة في تاريخ الأمم، خاصة في المغرب. كونها حولت الفترات التاريخية الغنية إلى أعمال سينمائية ملهمة تبرز النضال والهوية والتحولات الاجتماعية والسياسية، وأتاحت للجمهور فرصة التعرف على الحقبة الاستعمارية وتعزيز شعور الفخر الوطني والانتماء إلى الوطن.

نقل الأحداث الراهنة إلى السينما يظل مهمة صعبة في غياب الفكرة المناسبة وصعوبة الحصول على التمويل الكافي

وأنتج عبدالحي العراقي فيلمًا سينمائيًا يؤرخ فترة هامة من تاريخ الاستعمار الفرنسي للمغرب، يحكي قصة كمال، ابن أحد مهنيي الصناعة التقليدية البسطاء في المدينة القديمة بفاس، الذي عاش الأشهر الأخيرة للبلاد تحت الحماية الفرنسية. وقع كمال في حب جارته عائشة البالغة من العمر 18 عامًا، المنخرطة في النضال جنبًا إلى جنب مع رفاقها من الطلبة في جامعة القرويين، فانخرط بدوره في الكفاح من أجل الاستقلال وعودة السلطان محمد بن يوسف، ليصبح جزءًا من حركة وطنية جماعية تعبر عن روح المقاومة.

وشارك في بطولة الفيلم كل من أميمة بريد ومحمد عاطف وأيمن دريوي ومنية لمكيمل ومحمد نعيمان وماجدة بنكيران ونبيل عتيف وطارق بخاري، وهذا منح العمل حضورًا فنيًا متكاملًا بين الجيل الجديد والممثلين المخضرمين، وعبر عن تنوع الشخصيات وأثرى الحبكة الدرامية.

ويبرز السيناريو المدينة في فصل الصيف، كرمز للعاصمة الروحية للمملكة المغربية التي تعيش تحت سماء صافية. إذ أخفى هذا الوصف السلمي حقيقة تصاعد الصراع ضد الاستعمار. وأظهرت الأحداث أن نفي السلطان محمد الخامس في أغسطس 1953 أشعل نار المقاومة ودفع البلاد نحو مرحلة جديدة من النضال، فبدأ المغاربة بالتحرك بنشاط لمواجهة السلطات الاستعمارية، معبرين عن روح العزيمة والوحدة الوطنية.

وأبرزت اللقطات الرمزية المرأة وهي تنظف بيتها، ليعكس الفعل اليومي الرغبة العميقة في تنظيف البلاد من الاستعمار والخونة. وبينت المشاهد أن الأمور اليومية البسيطة تحمل معاني أعمق تتعلق بالمقاومة والتغيير، وأضافت لمسة واقعية للقصة وأكدت دور النساء في النضال الوطني. ووضع الفيلم الطفل في مكانة رمزية تعبر عن الأمل في الاستقلال، إذ يشير إلى براءة الطفولة ونقاء البلاد ويبرز وعدًا بمستقبل أفضل من خلال حركاته ونظراته، مسهمًا في بناء بنية السرد وخلق تواصل بصري بين القصة والجمهور.

وأظهرت أحداث الفيلم أن الشعب المغربي بكل تنوعه كان البطل الحقيقي في القصة، فلم تلتزم الأحداث بنمط البطولات الفردية أو الشخصيات الخارقة. كما بين الفيلم أن المقاومة حركة جماعية تشمل النساء والأطفال والفئات المهمشة، مؤكداً أن النضال الشعبي هو العامل الأساسي في تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي، وأن الفئات الأكثر تهميشًا كانت في طليعة الحركة الوطنية.

حح

وأظهرت متتاليات المشاهد البعد البصري من خلال تصوير زهرة في بيئة طبيعية مفعمة بالجمال، حينما بدأت زهرة القصة برأس منخفض لتنهيها مرفوعة، إشارة إلى نهوضها ودورها في النضال والمقاومة. وتميزت الحبكة الدرامية بتناغم المشاهد الحميمية داخل البيوت ومشاهد التوتر في الشوارع، لتبرز التناقض بين الحياة اليومية للمغاربة وصراعهم السياسي، وتعبر عن التحديات التي واجهها الشعب تحت سلطة الاحتلال.

وساهم كمال في كسر التسلسل الزمني الاعتيادي للسرد، مقدمًا مستوى جديدًا من التأمل والتطلع نحو المستقبل. فرمز كمال إلى الأمل في الخروج من حالة الانغلاق التي يعيشها الشعب المغربي، وأظهر انتقاله من الشارع إلى الشرفة دلالة على الانفتاح والتحرر، مضيفًا بعدًا رمزيًا لمشهد المقاومة من خلال نظراته وتفاعله مع الشخصيات الأخرى.

وأظهر المشهد الأخير الطفل كمال وهو ينظر إلى الكاميرا، داعيًا الجمهور إلى اليقظة والاستمرار في المقاومة. كما أبرز أهمية المقاومة في الماضي والمستقبل، مشجعًا على التحلي بالوعي والاستعداد لمواصلة النضال من أجل الاستقلال والحرية.

"55" يهدف إلى تعريف الأجيال الجديدة بما عاشه المغاربة خلال فترة المقاومة، وكيف كافح الشعب من أجل الاستقلال

ويتبين أن السينما المغربية عبر هذه الأعمال تعبر عن الصراعات الوطنية وجهود الشعب في مواجهة الاستعمار، وعززت الهوية الوطنية وفهم التراث الثقافي ونشرت الوعي بتاريخ المغرب الحافل بالمقاومة والتحديات. وسمحت الأعمال السينمائية بسرد واقعي وجاذب، وعملت كأداة قوية للتعليم والتأريخ والتثقيف والترفيه.

ودرس المخرج عبدالحي العراقي السينما في كلية لويس لوميير في باريس، وواصل تعليمه في جامعة السوربون تحت إشراف المخرج الفرنسي جان روش، وهذا منحه تكوينًا فنيًا وسينمائيًا عاليًا. وقبل دخوله عالم السينما عمل في مجالات الإعلانات والإذاعة والتلفزيون المغربي، مؤثرًا في أسلوبه الإخراجي.

وأخرج العراقي أفلامًا قصيرة لفتت الأنظار إلى موهبته، ثم أخرج فيلمه الطويل الأول “منى صابر”، وهو نقطة تحول في مسيرته الفنية. وأخرج بعد ذلك عدة أعمال سينمائية وتلفزيونية منها “ريح البحر” و”جناح الهوى” و”مقطوع من شجرة”، التي نالت إعجاب الجمهور المغربي.

وقدم أفلامًا تلفزيونية مثل “حبائل العنكبوت” و”علي يا علي” و”قلب كريم”، مع معالجة القضايا الإنسانية والاجتماعية والفنية.

وفاز فيلم “علي يا علي” بالجائزة الكبرى في مهرجان مكناس للدراما التلفزيونية، وحصد عدة جوائز أخرى لأداء الممثلين، ورُشحت أعماله لجوائز مرموقة في مهرجانات سينمائية دولية، مؤكدا مكانته البارزة في السينما المغربية.

وتميز بإبداعه في المزج بين الأصالة والتجديد، مقدمًا رؤية فنية متفردة حظيت بقبول واسع محليًا ودوليًا، مؤكدًا دوره الريادي في تطوير السينما المغربية وتعزيز حضورها الفني والثقافي على الصعيدين الوطني والدولي.

9