صحاكم الشوق أم مازال

يبدو أننا كي نعيش حقنا في التناقض نحتاج إلى تعلّم حقنا في الصمت، فكما كان صوت فضل شاكر سلاحا له وعليه فكل كلمة يقولها المرء في لحظة انفعال ستكون حتما له أو عليه.
الأربعاء 2025/09/03
عودة بقوة

أحبها الملايين وانتقدها آخرون. حفظها الأولون بسرعة، تغزلوا بها وبصاحبها وصوته العذب، بينما تجند الشق الثاني لمهاجمته والتذكير بـ”إرهابيته” وكأنهم كانوا إلى جانبه وهو يصوب أسلحته إلى صدور الأبرياء.

عن أغنية فضل شاكر الجديدة أكتب، عن “صحاك الشوق” التي “صحت” لدى العرب رفضهم المطلق لأن “يخطئ الآخر”، ملائكة هم فلو كان الخطأ صادرا عنهم أو عن أحبابهم لبحثوا عن ألف عذر، لكن طالما من أخطأ آخر غريب، تجهّز المشانق وتسنّ الرماح لتفتك به، دون انتظار للحقيقة حتى.

لا أكتب لأدافع عن الفنان، لكنني أؤمن بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وقضية فضل شاكر مازالت تحت أنظار القضاء اللبناني، وحده من يمكنه أن يصدر الحكم الفيصل، وتحرياته هي من ستجيب، ولا أظن أن شخصا في آخر الدنيا قد يُلمّ بتفاصيل القضية أكثر من القضاء والمتهم.

ورغم أنه حكم على الفنان غيابيا بالسجن 22 سنة، إلا أنه تمسك ببراءته وحوّل قضيته إلى قضية رأي عام، قضية يقول هو وكل من يناصره من فنانين وسياسيين وشخصيات عامة، إن السياسة وبعض رجالها استثمروا فيها كي يغيبوه عن الساحة الفنية، وكان كبش فداء لأنه بالأساس ابن مخيم عين الحلوة والصراع على الأرض متشعب وقليلون من يفهمونه.

لا أحد يمكنه أن ينكر جمال صوت فضل شاكر، منذ “والله زمان” أول ألبوم غنائي اشتهر به عربيا، وأغنية “متى حبيبي متى” التي كانت ترند تلك الفترة ولا تزال مشهورة إلى اليوم.

يبدو كأن صنوف العذاب التي ذاقها في طفولته طبعت صوته بمسحة من الحزن والحنان. تخلى عنه والداه وهو طفل صغير، ليكبر في ملجأ للأيتام، لك أن تتخيل أي شعور سكن قلب طفل والداه على قيد الحياة، بينهم كيلومترات أو ربما أمتار، لكنه يعيش في ملجأ ويعامل معاملة اليتيم وربما ينظر إليه أنه “ابن علاقة غير شرعية.” إنهما الفقر والحاجة من أجبرا الوالدين للتخلي عن ولدهما ويحفرا في قلبه وجعا لم يتجاوزه، ففي آخر تصريحاته تحدث عنه وهو على مشارف الستين بعيني طفل باكيتين.

كبر فضل وكان صوته سلاحه الذي صوبه تجاه الفن، فكان يغني في السهرات الليلية و”تفوح” سيرته كنجم قادم على مهل، ثم صار نجما، لكن السلاح ذاته وجّهه إلى نفسه بنفسه، لينهي تجربته الفنية مبكرا. لحظة كانت صادمة للوسط الفني العربي، غيّرت صورته من الفنان الحساس إلى المقاتل الشرس، رغم أنه يؤكد أن الصورة الصادمة عنه تكونت جراء فيديوهات يستعرض فيها أفكاره فقط.

طوال سنوات، لم يغب اسم فضل شاكر عن أيّ حوار فني مع مشاهير الموسيقى العربية، حتى قدّم أغنية “شبعنا من التمثيل” تتر مسلسل “لدينا أقوال أخرى” عام 2018، بعدها بعامين ظهر فجأة ومعه شيرين عبدالوهاب يغنيان في منزله، وتأكد حينها تمهيده لعودة فنية. المثير أنه مهدد بالقتل ورغم ذلك زارته شيرين مرة ثانية منذ أشهر، لتسجيل ديو غنائي، وتعرضت هي الأخرى لتهديدات بالقتل والسجن.

في هذه الحكاية المعقدة، يخطر على بالي قول الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير “ثمة حقّ منسيّ قد يهم الجميع أن يُعاد إليه الاعتبار، إنه: الحق في التناقض،” جملة قالها بودلير الذي توفي عام 1867، ويبدو أننا منذ ذلك الزمن إلى اليوم لم نتعلم بعد أن الحق في التناقض حق إنساني مشروع، من حقي وحقك وحق الجميع أن نتغير ونناقض أنفسنا، حتى “نرسو على بر” يريحنا، لكن يبدو أننا كي نعيش حقنا في التناقض نحتاج إلى تعلّم حقنا في الصمت، فكما كان صوت فضل سلاحا له وعليه فكل كلمة يقولها المرء في لحظة انفعال ستكون حتما له أو عليه.

18