سلام تاريخي أم هدنة على حافة الانهيار
في لحظة وصفت بالتاريخية يؤمل منها أن تُغير مسار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن توصل إسرائيل وحركة حماس إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، بعد مفاوضات مكثفة جرت في شرم الشيخ بمصر. هذا الاتفاق، الذي يأتي بعد سنتين من الحرب المدمرة، يشمل إطلاق سراح الرهائن والمعتقلين، وانسحاباً تدريجياً للقوات الإسرائيلية، ودخول المساعدات الإنسانية. لكن هل يمثل هذا الاتفاق بداية سلام دائم، أم مجرد هدنة مؤقتة تخفي تحتها توترات أعمق؟ الإنجاز الدبلوماسي، الذي جاء بفضل الضغط الشديد من ترامب، يعكس قوة الدبلوماسية الأميركية، لكنه يواجه تحديات هائلة قد تعيده إلى نقطة الصفر إذا لم يُدعم بإرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف.
بدأت القصة مع هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، الذي أسفر عن مقتل 1219 شخصاً في إسرائيل، وخطف 251 رهينة، منهم 47 ما زالوا محتجزين حتى اليوم، بما في ذلك المتوفين. ردت إسرائيل بحملة عسكرية عنيفة أدت إلى مقتل أكثر من 67 ألف فلسطيني في غزة، وفقاً لأرقام وزارة الصحة في القطاع. هذه الأرقام المروعة تحولت القطاع إلى أرض محروقة، حيث نزح ملايين السكان، وانهارت البنية التحتية. في هذا السياق، جاءت خطة ترامب كمحاولة لكسر الجمود، بعد فشل هدنتين سابقة في نوفمبر 2023 وبداية 2025. الخطة تنص على وقف إطلاق النار، إطلاق سراح الرهائن، نزع سلاح حماس، وإدارة غزة من قبل لجنة فلسطينية تكنوقراطية تحت إشراف “مجلس السلام” الذي يرأسه ترامب نفسه، مع مشاركة شخصيات مثل توني بلير. هذا النهج يعكس أسلوب ترامب الذي يعتمد على الضغط الشخصي، حيث أجرى اتصالات مكثفة مع نتنياهو، محذراً إياه من “الانسحاب الأميركي” إذا لم يقبل الاتفاق.
يمثل دور ترامب هنا انتصاراً للدبلوماسية الجريئة. خلافاً للإدارات السابقة التي اعتمدت على وسطاء دوليين دون تدخل مباشر، فرض ترامب إرادته من خلال مكالمات هاتفية متكررة وتهديدات اقتصادية وعسكرية غير مباشرة. في منشوره على “تروث سوشال”، وصف الاتفاق بأنه “يوم عظيم للعالم”، مشيراً إلى إطلاق
◄ رغم مشاعر الفرح بين النازحين الفلسطينيين يخيم الخوف من تكرار فشل الهدن السابقة. غزة مدمرة تحتاج لإعمار ضخم والاتفاق لن ينجح دون ضمانات دولية وحل سياسي يعالج جذور الصراع
سراح الرهائن “قريباً جداً”، بما في ذلك جثث المتوفين. هذا الضغط لم يقتصر على إسرائيل؛ فقد أبلغت قطر وتركيا ومصر حماس بأن هذا هو “أفضل عرض” ستحصل عليه، مما دفعها للقبول رغم تحفظاتها على نزع السلاح. هنا تكمن عبقرية ترامب: هو لم يكن وسيطاً محايداً، بل قائداً يستخدم نفوذ أمييكا لفرض حلول عملية. في مقابلة مع “فوكس نيوز”، أكد أن الرهائن قد يعودون يوم الاثنين، مما يعزز من صورته كـ”رئيس السلام”.
ومع ذلك، لا يخلو الاتفاق من مخاطر. أولاً، الجانب الإسرائيلي: رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وصف الاتفاق بـ”يوم عظيم لإسرائيل”، لكنه أصر على بقاء الجيش في معظم غزة، مما يتعارض جزئياً مع خطة الانسحاب التدريجي. وزراء اليمين المتطرف في حكومته، الذين رفضوا سابقاً أي وقف للنار قبل القضاء على حماس، قد يعرقلون التنفيذ. ثانياً، من جانب حماس: الحركة وافقت على إطلاق الرهائن الأحياء (حوالي 20 إسرائيلياً) مقابل 1950 معتقلاً فلسطينياً، بما في ذلك 250 محكوماً بالمؤبد. لكنها تجنبت الإشارة إلى نزع سلاحها، مشددة على مناقشة “مستقبل القطاع”. هذا الغموض قد يؤدي إلى انتهاكات سريعة، كما حدث في الهدن السابقة. كما أن الجيش الإسرائيلي أعلن إعادة انتشاره، محذراً سكان غزة من العودة إلى الشمال، مما يشير إلى أن العمليات العسكرية قد تستمر تحت غطاء “الاستعداد لكل سيناريو”.
على المستوى الإنساني، يبعث الاتفاق الأمل في قلوب الفلسطينيين. في منطقة المواصي جنوب غزة، عمت الفرحة مع أنباء الاتفاق، حيث روى نازحون مثل سامر جودة دموع الفرح بعد سنتين من “القصف والرعب”. ومع ذلك، يخيم الخوف من “الغدر”، كما قال طارق الفرا، مشيراً إلى فشل الهدن السابقة. هذه المشاعر المختلطة تعكس واقعاً مريراً: غزة مدمرة، وتحتاج إلى إعادة إعمار هائلة، مع زيادة المساعدات الإنسانية كما وعد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي رحب بالاتفاق ودعا إلى احترامه. كذلك، أشادت مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية كايا كالاس بالإنجاز، وعدت بدعم الاتحاد الأوروبي، بينما شكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ترامب على دوره.
نجاح هذا الاتفاق يعتمد على عدة عوامل. أولاً، يجب أن تكون هناك آليات رقابة دولية قوية لضمان التنفيذ، مثل مشاركة الأمم المتحدة في إعادة الإعمار. ثانياً، يحتاج الأمر إلى حل سياسي شامل يعالج جذور الصراع، مثل إقامة دولة فلسطينية مستقلة، كما أكد أردوغان. ثالثاً، دور ترامب يجب أن يستمر كضامن، لكن دون تحيز كامل لإسرائيل، كما اتهم به سابقاً. إذا فشل الاتفاق، قد يؤدي إلى تصعيد أكبر، خاصة مع استمرار التوترات في المنطقة.
اتفاق وقف إطلاق النار هذا خطوة جريئة نحو السلام، مدفوعة بضغط ترامب الذي أثبت فعاليته. لكنه ليس نهاية الطريق؛ بل بداية لعملية طويلة تتطلب إرادة جماعية. إذا نجح، سيكون شاهداً على أن الدبلوماسية القوية يمكن أن تنقذ الأرواح وتبني مستقبلاً أفضل. أما إذا فشل، فسيكون تذكيراً مؤلماً بأن السلام في الشرق الأوسط يظل حلماً بعيد المنال. الآن، الكرة في ملعب الأطراف المعنية لتحويله إلى واقع.