رسائل سياسية تحرّك اتحاد الشغل في تونس
يتحرّك الاتحاد العام التونسي للشغل هذه الأيام على أكثر من جبهة لتبديد الصورة التي رُسمت عنه مؤخرًا، والتي تُصوّره كمنظمة خارج الأطر التي حُددت للعمل النقابي، محصورة في زاوية ضيقة. بدأ الاتحاد دعوته إلى إضراب عام في قطاع النقل العمومي لمدة ثلاثة أيام، وقد تم تنفيذه، ثم تبعته وقفة احتجاجية لنقابة التعليم الأساسي أمام وزارة التربية الخميس الماضي للمطالبة بزيادة الأجور. هذه التحركات تُوحي بأن المنظمة النقابية لا تزال تعتقد أنها قادرة على الفعل وتعطيل المسار الإصلاحي الذي رسمه الرئيس قيس سعيّد للنهوض بالبلاد.
يبدو أن اتحاد الشغل يريد إرسال رسائل سياسية إلى السلطة، مؤكدا أنه لا يزال طرفا فاعلا في المشهد السياسي، وقادرا على فتح قنوات للحوار من جديد. لكن هذه الرؤية تبدو محدودة بترتيبات البيت الداخلي للمنظمة النقابية، ويبدو أنها لم تتجاوز جدران ساحة محمد علي، وفق توصيفات بعض المهتمين بالشأن السياسي في تونس.
أسئلة عديدة تُطرح، واستفسارات كثيرة تفرض نفسها للبحث عن إجابات حول دوافع التحركات التي بدأ الاتحاد العام التونسي للشغل بخوضها، مستغلاً الفترة الصيفية التي تتوقف فيها أغلب قواعده لعطلة مطوّلة: ماذا يريد الاتحاد من السلطة؟ وما دلالات الرسائل التي يسعى لتوجيهها من خلال تنفيذ إضرابات قطاعية؟ أي مسار تفاوضي يمكن أن يؤدي إلى فتح باب الحوار من جديد مع السلطات؟ وهل يعي الاتحاد حجمه الطبيعي قياسا بالتحديات المصيرية التي تواجهها تونس؟
تشير المؤشرات إلى أن الاتحاد العام التونسي للشغل لا يزال يعتمد على نهجٍ تقليدي يفتقر إلى الابتكار في فتح قنوات الحوار والنقاش حول قضايا لا تقتصر على الأجور، بل تتعلق بصحة وسلامة أعضائه في قطاعات حيوية مثل النقل والتعليم والصحة. الجامعة العامة للنقل التابعة للاتحاد أكدت في بيان لها الخميس، عبر صفحتها على فيسبوك، أن “الإضراب في يومه الثاني سجّل نجاحا باهرا، وسيتواصل.” وأضافت “في يومه الثاني، يثبت الإضراب القطاعي للنقل أنه ليس مجرد محطة نضالية عابرة، بل رسالة واضحة مفادها: الوحدة تصنع القوة، والإصرار ينتصر.” وتابعت “النجاح الباهر للإضراب يؤكد تمسك أبناء وبنات القطاع بحقوقهم، وثباتهم في مطالبهم، وإيمانهم بالحوار الجدي، مع رفضهم للمراوغة والتسويف.”
◄ يبدو أن اتحاد الشغل يريد إرسال رسائل سياسية إلى السلطة، مؤكدا أنه لا يزال طرفا فاعلا في المشهد السياسي، وقادرا على فتح قنوات للحوار من جديد. لكن هذه الرؤية تبدو محدودة بترتيبات البيت الداخلي للمنظمة النقابية
عندما تُغلق أبواب التفاوض والحوار يصبح الإضراب الوسيلة الأبلغ التي يعبّر من خلالها العمال عن مطالبهم المشروعة، دفاعا عن حقوقهم في العمل في ظروف تضمن أمنهم وسلامتهم. هذه هي الفرضية التي بنت عليها قواعد المنظمة النقابية موقفها لتنفيذ الإضراب في قطاع النقل العمومي، والتي تحمل في طياتها رسائل سياسية تخطط لها القيادات العليا وتوجه الإشارة إلى أعضائها للتنفيذ في الميدان.
تكمن أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل، وبعض من يتبنون رؤيته الضيقة، في محاولتهم تسجيل نقاط على حساب السلطة وتحركاتها. هذه الرؤية تبدو قاصرة، إذ لا ترى إلا نصف الكأس الفارغ، ولا تأخذ في الاعتبار الجهود التي تبذلها الدولة لتحسين الأوضاع. كيف يمكن تفسير تحرك أعوان النقل في وقت تسعى فيه الدولة إلى عقد صفقات لاقتناء حافلات جديدة، وتحسين البنية التحتية، وتجنيد عناصر أمن بشكل دوري للحفاظ على سلامة العاملين والمسافرين على حد السواء؟
الظرف الاستثنائي الذي تعيشه تونس اليوم لا يحظى بالاعتبار الكافي. فالأزمة الاقتصادية الضاغطة، والديون الخارجية التي لا تزال الدولة تدفع فاتورتها، ومستوى التضخم المرتفع الذي يبحث المختصون عن مخرج له، تُعدّ تحديات تتعامل معها السلطة بحذر، سعيا لتطويعها خدمة للصالح العام، والبحث عن حلول للأزمة العميقة التي تعيشها تونس. يُفترض أن يكون الجميع منسجما ومساهمًا في رؤية تأخذ في الاعتبار الوضع الحرج الذي يحرّك القائمين على الدولة، وتستند في مطالبه إلى دعم المنجز بدلاً من تقزيمه أو الاستنقاص منه.
تبدو رؤية الرئيس قيس سعيّد في هذا الاتجاه واضحة ولا تقبل التشكيك. فقد عبّر عن ذلك قائلا إن “منوال التنمية الذي يتم البحث عنه ماثلٌ واضحٌ أمام الجميع، والشعب التونسي هو الذي خطّه، وما على الجهات المعنية سوى العمل على تحقيقه.” وأكّد أن “تونس تعجّ بالخيرات والثروات، ولن تكون لقمة سائغة للوبيات وأعوانهم في أي مستوى كان،” مشيرا إلى أن العمل مستمرّ دون انقطاع حتى لا يبقى بائسٌ أو محروم. وأضاف أن “المسؤول الذي لا يكون مثالاً في التعفّف والتقشّف، ولا يشعر بمعاناة المواطنين في كل وقت، ولا يسعى إلى تذليل العقبات أمامهم، بل يتعمّد في كثير من الأحيان التنكيل بهم، غير جدير بتحمّل المسؤولية، وسيحلّ محله شبابٌ مؤمنٌ بأنه يُساهم في معركة تحرير وطنية بروح المناضل من أجل كرامة وطنه وحق أبناء شعبه في العيش الكريم.”
الأساس في البناء أن يكون على أرضية صلبة ليكون متماسكا وقادرا على مقاومة التحديات. هذا هو المسار الذي رسمه الرئيس سعيّد، واختار السير فيه لبناء تونس التي يحلم بها الكثيرون، لا تونس التي يتربّص بها “أعداء الداخل”، ويحاولون، يائسين، جرّها إلى مربّع الاحتجاجات والفوضى. هذه هي تونس التي تُبنى من جديد على قاعدة الانتصار والبقاء للأجدر، المجند لخدمة البلاد وأداء الواجب المقدّس في جميع الظروف، بمرّها قبل حلوها.