المزود التونسي: نبض الشارع وإيقاع الروح

المزود لم يولد في القاعات الفخمة ولا في المعاهد الموسيقية، بل خرج من أفراح الناس البسطاء وأحزانهم.
الخميس 2025/09/25
نغم في البال

إذا كنت تونسيا أو زُرت تونس في يوم ما، فلا بد أنك قد سمعت ذلك الصوت المنبعث من الـ”مزدوج” يعلو في أحد الأعراس أو المناسبات، ترافقه أنامل متمرّسة تضرب على آلة “البندير” في إيقاع يُشعل الحماسة ويلهب القلوب. ذلك هو فنّ المزود، أحد أكثر الألوان الموسيقية شعبية وتأثيرا في تونس والتوانسة عموما والذي لا يزال حيّا ومتجددا مع مرور الزمن.

اكتسب هذا النوع الموسيقي اسمه من الآلة التي تسمى في الأصل “مزدوج” (أي ثنائي) وذلك نسبة إلى القرنين اللذين يكونان عادة في أعلى الآلة التي تصنع من جلد الماعز مع قصبة في الأسفل فيها خمس أو ست فتحات. تقول المصادر إن هذه الآلة ظهرت في تونس مع الإغريق، وتحديدا اليونانيين الذين حلوا بشمال أفريقيا وخاصة مدينة بنغازي الليبية ووصلوا منها إلى تونس والجزائر.

آلة المزود عادة تكون مقترنة بالآلات الإيقاعية مثل “البندير” و”الدربوكة” وشهدت في مطلع القرن العشرين تطوّرا من خلال تحوّلها إلى نمط موسيقي يرمز إلى الكادحين الذين اتّخذوا من السهرات الماجنة وسيلة للترفيه ونسيان همومهم.

المزود لم يولد في القاعات الفخمة ولا في المعاهد الموسيقية، بل خرج من الحومة، من الربط، والأزقّة الشعبية، من أفراح الناس البسطاء وأحزانهم. هو فن الشارع بامتياز، يُغنّى باللهجة التونسية ويتناول مواضيع الحب والغدر والخيانة والفقر، وحتى السياسة أحيانا بأسلوب مباشر وصادق.

في بداياته كان المزود يُعزف في الأعراس والاحتفالات العامة، حيث يتحلّق الناس حول الفرقة يرقصون ويغنّون وكأنهم يفرغون شحنات من الطاقة العاطفية مع كل دقّة بندير ومع كل موال تطفح به حنجرة هذا المطرب أو ذاك.

من يحاول الغوص في هذا الفن الشعبي لا يستطيع أن يغفل صانعيه من الجذور وروّاده الأوائل الذين لا يغيبون عن مخيلة أي تونسي أمثال الهادي حبوبة وصالح الفرزيط والهادي دنيا ولطفي جرمانة وسمير لوصيف وغيرهم الكثيرين. يبقى أبرزهم على الدوام حبوبة، الفنان الأسطوري الذي جعل المزود يُحترم ويُسمع في كل بيت تونسي. حتى أن أغانيه مثل “يا بنت السلطان” و”يا ليل يا بو اللمّة” باتت جزءا من الذاكرة الجماعية.

ثم جاءت بعض الأسماء الأخرى اللامعة في هذا الفن أمثال نورالدين الكحلاوي ومحمد الروج ومحمد علي الأسمر ليضيفوا نكهتهم الخاصة ويُطوّروا المزود بأساليبهم الخاصة والمبتكرة. واليوم نقف أمام جيل جديد من الفنانين الذين يمزجون المزود مع الراب والموسيقى الإلكترونية، مثل بلطي والراحل كافون، ما جعله يصل إلى جمهور أوسع داخل تونس وخارجها.

البعض يرى أنه لا يمكن تخيّل عرس تونسي دون فقرة المزود. إنها اللحظة التي يتخمّر فيها الناس ويتحوّل فيها الحفل إلى ساحة رقص جماعي، أين يندمج الكبير مع الصغير في موجة من الفرح الجماعي. كما أصبح المزود حاضرا في المهرجانات مثل مهرجان قرطاج ومهرجانات موسيقية أخرى، حيث يُقدّم بأسلوب احترافي يُبرز جمالياته ويُعيد له الاعتبار كفن له قيمة ثقافية.

ورغم بعض الانتقادات التي تُوجّه للمزود باعتباره فنا شعبيا بسيطا، أثبت هذا النوع الموسيقي الشعبي على الدوام أنه قادر على التطور ويحمل في طيّاته طاقة فنية هائلة؛ إنه صوت الناس، مرآة المجتمع، وإيقاع لا يموت.

12