تونس في مواجهة الإدارة العميقة: معركة الإصلاح من الداخل

رسالة الرئيس قيس سعيّد واضحة ولا لبس فيها "آن الأوان لأن تحلّ كفاءات شابة محلّ من لم يتّعظ بالتاريخ ومن لم يستوعب أن المسؤولية مهما كانت درجتها أمانة ثقيلة".
الخميس 2025/07/17
رهان على الشباب

تعيش تونس مرحلة دقيقة جدًا في ما يتعلق بالتحوّل السياسي والهيكلي للمؤسسات، وظروف اشتغال الإدارة، ورواسب التغيير التي قد تؤدي إلى اقتلاع جذور من يقفون في الركن المظلم ويعطّلون سير العمل الإداري، أو ما يمكن أن يُصطلح على تسميتهم بـ”الإدارة العميقة”. في هذه الأثناء، تفرض المرحلة أكثر ما تفرضه أن يكون الحسّ الوطني عاليًا في تقدير المكتسبات التي بلغتها البلاد بعد الثورة العميقة التي قادها ويقودها الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ 25 يوليو 2021، لتخليص الدولة من الفساد والفاسدين.

الحرب على لوبيات الفساد والكارتلات لا تزال قائمة. هكذا يُخيَّل لأيّ مواطن حصيف يراقب عن كثب الوضع الذي آلت إليه البلاد في ظرف أربع سنوات، يستشعر خلالها أن تونس التي أُريد لها ألا تكون، بدأت تتلمّس طريقها نحو التعافي، رغم كيد الكائدين وغصبًا عن كل الرواسب التي تحاول تعطيل عملية التغيير فيها. وطبعًا، يبقى كل شيء نسبيًّا، ولا شيء مثاليًّا، وفق تقدير المراقبين والمهتمين بأوضاع البلاد العامة والخاصة.

لكي نضع الأمور في إطارها الصحيح، لا تزال تونس تنشد مزيدًا من التغيير والإصلاح. صحيح أن عملية الإصلاح من الداخل، وفي جميع القطاعات تقريبًا، تسير ببطء؛ لكن المهم أن عجلة الإصلاح بدأت بالدوران. لا عودة إلى الوراء، هذا ما وعد به الرئيس التونسي قيس سعيّد التونسيين، ويعدهم به يوميًا، في كل زيارة ميدانية يقوم بها، سواء أُعلنت أو لم تُعلن، إلى المؤسسات والمناطق داخل تونس الكبرى أو في بعض الولايات الداخلية.

◄ تلك هي رواسب التغيير التي ينبغي على السلطة أن تُعيد النظر فيها، وأن تُعالج الظواهر السلبية في العمق، لتخليص المؤسسات الوطنية من "الإدارة العميقة" التي عمّرت طويلًا

أكثر ما يُنهك الدولة ويعطّل دواليبها ويعرقل عملية الإصلاح هو عندما تكون هناك “خيانات من الداخل.” مفهوم الخيانة هنا يحتاج إلى توضيح والوقوف عنده. بشكل أدق، تعني الخيانة العمل على تعطيل دواليب الدولة، ومنع عملية الإصلاح من أن تكون كما يشتهي القائمون عليها. هذا الدور تتكفّل به لوبيات الفساد وكارتلات لا يخدمها أن يتعافى الاقتصاد، أو أن تستعيد مؤسسات الدولة إنتاجيتها، أو أن تعود عجلة التنمية إلى نشاطها كما كانت عليه في السابق.

في الأثناء، ثمّة معطًى هام وأساسي وجب على السلطة الالتفات إليه والتركيز عليه بدقة، ألا وهو أزمة “الإدارة العميقة” التي تحاول جاهدة الوقوف ضد مشروع الإصلاح. إرث الدولة العميقة لا يزال قائمًا داخل إداراتها، إذ لم ينزع أصحابها جُبّة التضليل والتعتيم، ولم يضعوا اعتبارًا لمفهوم “تونس أولًا” في ما يقومون به. وهنا تأتي رسالة الرئيس قيس سعيّد، واضحة ولا لبس فيها، إلى رئيسة الحكومة سارة الزعفراني، بأنه “آن الأوان لأن تحلّ كفاءات شابة محلّ من لم يتّعظ بالتاريخ، ومن لم يستوعب أن المسؤولية، مهما كانت درجتها، أمانة ثقيلة.”

الرئيس سعيّد يُدرك أن “بيروقراطية التعطيل” آن أوان الوقوف في وجه تيارها، وأنه من الضروري التصدي لها بكل الوسائل الممكنة. آن للدولة أن تستعيد كادرها الإداري الحقيقي، وأن تراهن على شبابها المُعطّل قسرًا، من أجل النهوض. ولهذا السبب، فُتح الباب لإعادة التوظيف في القطاع العمومي، الذي ظل مغلقًا منذ عام 2016، بحجة إرهاق ميزانية الدولة، وأنها لا تحتمل ذلك الكمّ الهائل من التوظيف العشوائي الذي قادته حركة النهضة حينها، ولا تزال الإدارة التونسية تعاني من تبعاته إلى اليوم، في أغلب القطاعات.

وقد شرح الرئيس سعيّد هذه النقطة بقوله “لا جدوى من تضخّم على مستوى المؤسسات، في حين أنها لا تؤدي أيّ دور، وتُرصد لها أموال ضخمة، أحرى أن تُرصد لمؤسسات ناجعة تُحقّق الأهداف التي أُحدثت من أجلها.”

كما تطرّق الرئيس في أكثر من مناسبة إلى سير عمل عدد من المرافق العمومية التي لا تشتغل على الوجه المطلوب، وأكد ضرورة تحميل المسؤولية كاملة لمن أخلّ بواجباته، موضحًا أن “الأموال التي يتقاضاها كل مسؤول، هي من أموال الشعب التونسي، لخدمة الشعب التونسي.”

◄ تونس لا تزال تنشد مزيدًا من التغيير والإصلاح. صحيح أن عملية الإصلاح من الداخل، وفي جميع القطاعات تقريبًا، تسير ببطء؛ لكن المهم أن عجلة الإصلاح بدأت بالدوران

تونس اليوم تنشد إصلاحًا حقيقيًا من الداخل، لتخليص إدارتها من الرواسب القديمة التي علقت بها، وتجفيف منابع الاستخفاف والتعطيل التي ارتهن لها أصحاب العقول الضيقة ممّن يراهنون على ضرب الدولة والوقوف ضدها. هذه هي العقلية التي تراهن عليها فئات واسعة من “الإدارة العميقة”، والتي تقف ضد مكاسب الدولة، ولا تريد لها أن تنهض.

ثمّة أمثلة عديدة تُساق في هذا الاتجاه، ولا منطق يمكن أن يتصدّى لها إلا بتغليظ العقوبة ضد كل من يحاول ضرب تونس من الداخل.

الأهم من ذلك أن يكون القانون أداةً لردع هؤلاء، وأن يكون تطبيقه هو الإشارة الضوئية التي تُعيد إليهم رشدهم. من يقف ضد مصالح الدولة وحقوق الشعب، يجب أن يُعاقب بقانون الدولة، الذي وُضع لحماية مصالحها، وحق شعبها في أن يكون هو السلطة الأولى والأخيرة في الذود عنها، وضمان ديمومتها.

لقد أصبح الحلم أن ترى أناسًا متحلّقين في مقهى، أو في أيّ مكان آخر، يناقشون موضوعًا حول نظام سير الشغل داخل هذه الإدارة أو تلك، ويتفردون بذكر خصال هذا الموظف أو ذاك ممن تؤطّرهم روح الوطنية في تأدية الواجب بشرف وتفانٍ. وهذا معطًى أكثر من اعتيادي، والأصل أن يكون كذلك.

تلك هي رواسب التغيير التي ينبغي على السلطة أن تُعيد النظر فيها، وأن تُعالج الظواهر السلبية في العمق، لتخليص المؤسسات الوطنية من “الإدارة العميقة” التي عمّرت طويلًا، وزرعت بذور الفتنة والترذيل، وتحاول جاهدة تعميق “بيروقراطية التعطيل”، ولا تريد لتونس أن تنهض من جديد.

9