تراجع معدلات الخصوبة في تونس

عوائق اقتصادية واجتماعية تحول دون تفكير الشباب في الإنجاب
الاثنين 2025/07/14
تراجع الخصوبة مشكلة تقلق المختصين

تكشف التقارير الدولية تراجع معدلات الخصوبة عالميا، وليست تونس بمنأى عن الظاهرة حيث تشير الدراسات إلى أن العوائق الاقتصادية والاجتماعية تبقى من أبرز الصعوبات التي تحول دون تفكير الشباب في الإنجاب. ويرجع مختصون تونسيون تراجع نسبة الخصوبة إلى تنامي النزعة الفردانية لدى المواطنين، وتركيزهم المتزايد على المستقبل المهني وتحقيق الاستقلالية الشخصية، على حساب الارتباط وتكوين الأسرة.

تونس ـ كشف التقرير العالمي حول حالة السكان لسنة 2025 والذي حمل عنوان “الأزمة الحقيقية للخصوبة”. أن العوائق الاقتصادية والاجتماعية تبقى من أبرز الصعوبات التي تحول دون تفكير الشباب في الإنجاب. فقد أبدى 20 في المئة من الشباب في العالم في سن الإنجاب على عدم قدرتهم على تحديد عدد الأطفال الذين يرغبون في إنجابهم و39 في المئة من المستجوبين أكدوا أن العوائق المالية تقف حاجزا أمامهم نظرا لعدم حصولهم على دخل شهري قار أو مسكن.

وتتمثل العوائق الاجتماعية، بالخصوص، في عدم التكافؤ في تقاسم أعباء الرعاية، حيث اعتبر 10 في المئة من المستجوبين أن عدم كفاية مشاركة الطرف الثاني في الأعمال المنزلية أو رعاية الأطفال أثر على قراراتهم. كما عبر 19 في المئة من المستجوبين عن مخاوفهم من إنجاب الأطفال في ظل ما سيشهده المستقبل من تغيرات مناخية وتدهور بيئي وحروب وجوائح.

واعتبرت مديرة صندوق الأمم المتحدة للسكان مكتب تونس، ريم فيالة، أن النتائج التي خلص إليها التقرير تنطبق أيضا على تونس، حيث يرغب التونسيون في إنجاب أكثر من طفل واحد إلا أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية تقف عائقا أمام ذلك.

اعتدال المجبري: التناول الإعلامي لمسائل تعنى بالصحة الجنسية والإنجابية والسكان يبقى ضعيفا
اعتدال المجبري: التناول الإعلامي لمسائل تعنى بالصحة الجنسية والإنجابية والسكان يبقى ضعيفا

وأكدت أنه من المهم الأخذ بعين الاعتبار التوصيات الواردة في التقرير عند صياغة السياسات العامة في تونس، لاسيما تلك التي تدعو إلى تجاوز التركيز المفرط على الأهداف العددية للخصوبة، والاتجاه بدلا من ذلك نحو تمكين الأفراد من تحقيق تطلعاتهم الإنجابية بكل حرية ووعي.

وأشارت إلى ضرورة اعتماد الدولة على سياسات تركز على الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية من بينها إدراج التوعية بالخصوبة في برامج التربية الجنسية ومكافحة المعلومات المضللة حول الصحة الجنسية والإنجابية وإشراك جميع الفئات السكانية في صياغة السياسات. وقالت فيالة إن المكتب يطمح مع شركائه إلى إنجاز تقرير مشابه يتعلق بالخصوبة في تونس والتحديات التي يواجهها الشباب في الإنجاب.

بدوره، أشار المختص في الديموغرافيا، حافظ شقير، أن تونس تشهد توجها واضحا نحو التهرم السكاني، حيث بلغ معدل الخصوبة 1.6 في سنة 2023. وفسر هذا التراجع بجملة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن تنامي النزعة الفردانية لدى المواطنين، وتركيزهم المتزايد على المستقبل المهني وتحقيق الاستقلالية الشخصية، على حساب الارتباط وتكوين الأسرة.

وبين أن هذا المؤشر الديمغرافي لا يعني أن نتخلى عن سياسات التنظيم العائلي وتوفير وسائل منع الحمل، فالإنجاب يبقى حرية شخصية وتمكين المواطنين من الولوج إلى الحقوق الجنسية والإنجابية ضروري لتحقيق الرفاه وضمان تباعد الولادات وتأمين حياة الأمهات.

وأكدت مديرة مركز “كوثر”، اعتدال المجبري، أن التناول الإعلامي لمسائل تعنى بالصحة الجنسية والإنجابية والسكان يبقى ضعيفا، مشيرة إلى أن آخر دراسة أنجزها المركز حول التعاطي الإعلامي لقضايا السكان والتنمية في تونس أثبتت أن التناول الإعلامي لمثل هذه القضايا يبقى مناسباتيا ويأخذ طابعا إخباريا. كما يفضل الصحافيون المواضيع السياسية أو الاقتصادية أو تلك المثيرة التي تجذب القراء وتزيد من نسبة المشاهدة والاستماع.

وكشفت التقرير أن 14 في المئة فقط من الصحافيين المستجوبين ينتجون أكثر من 10 أعمال صحافية سنويا، وهي نسبة ضئيلة تعكس عدم إيلائهم اهتماما بقضايا السكان والتنمية.

وشددت المجبري على أهمية إنجاز مقالات تفسيرية وتحليلية تتناول هذه القضايا بعمق، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن أولوية العمل الصحفي تبقى في نقل المعلومة الدقيقة وغير المضللة من خلال المقالات الإخبارية، قبل التوجه إلى أي نوع صحفي آخر.

ويشهد المجتمع التونسي تحوّلات واضحة في سياسة الإنجاب تتجلى في تقلص عدد الأطفال بعد أكثر من 60 عاماً من بدء السلطات تنفيذ سياسة تحديد النسل، إذ أصبح الأزواج الشبان أكثر اقتناعاً بإنجاب طفل واحد، أو طفلين على الأكثر، رغبة في توفير ظروف حياة أفضل لأطفالهم.

جل المستجوبين اعتبروا أن عدم كفاية مشاركة الطرف الثاني في الأعمال المنزلية أو رعاية الأطفال أثر على قرار الإنجاب

وتفيد أحدث الإحصائيات الرسمية بأن نسبة الخصوبة انخفضت بشكل متكرر خلال السنوات الأخيرة، وصولا إلى 1.8 طفل في سنة 2021، مقارنة بـ2.4 طفل في عام 2013، وفق بيانات معهد الإحصاء الحكومي، وتعد المباعدة بين الولادات، وتأخر سن الزواج من بين أبرز المؤشرات في هذا السياق.

وتعني نسبة الخصوبة عدد الولادات الجديدة لكلّ ألف امرأة في سنّ الإنجاب في الفئة العمرية من 15 إلى 49 سنة أيا كانت حالتهن المدنية، سواء كن عازبات أو متزوجات أو أرامل أو مطلقات.

وتقول الباحثة التونسية المختصة في علم الاجتماع، صابرين الجلاصي، إن “توجه الأسر التونسية نحو الاكتفاء بطفل واحد، أو طفلين، هو نتيجة للتطوّر التاريخي لسياسة تحديد النسل التي عرفتها تونس قبل أكثر من ستة عقود،” معتبرة أن “السياسات الاجتماعية التي تفرضها الحكومات تتطور بطبعها، وربما تأخذ أشكالاً جديدة، وتتحول إلى قرارات فردية”.

وتؤكد الجلاصي، أن الضغوط المعيشية المتزايدة، ومتطلبات المجتمع الجديدة تؤثر بدورها على قرار الإنجاب لدى الأسر، فاللجوء إلى تقليص الإنجاب، أو التباعد بين الولادات، ظواهر تعيشها كل المجتمعات التي تمر بصعوبات معيشية، لاسيما إذا اقترن ذلك بمستويات جيدة من الوعي والتعليم.

بيّنت وزيرة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السنّ، أسماء الجابري، تراجع نسبة الزيجات من 2.02 في المئة سنة 2013 إلى 1.21 في المئة سنة 2021، وتراجع معدل الخصوبة إلى 1.82 في المئة، حسب آخر الإحصائيات، وتراجع نسبة الرضاعة الطبيعية التي بلغت 17.8 في المئة سنة 2023، مقابل 48 في المئة كمعدل عالمي، بالإضافة إلى تفاقم ظاهرة الطلاق في المجتمع التونسي.

وشدّدت الوزيرة، خلال افتتاح أشغال ورشة عمل خصّصت للانطلاق في إعداد خطّة وطنيّة حول التماسك الأسري، على أهمية الأسرة باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع والمسؤولة الأولى على تنشئة أبنائها على احترام القيم والمعايير المجتمعية والالتزام بالحقوق والواجبات، خاصّة في ظلّ التغيّرات التي تشهدها وتطور الأدوار المسندة إليها والوظائف الموكولة لها.

وأضافت أنّ ذلك يستوجب ضرورة اعتماد مقاربة شمولية وتشاركية لوضع أرضية قانونية صلبة تكرس مكانة الأسرة ودورها في المجتمع، وذلك تناغما مع ما ورد في الفصل 12 من الدستور التونسي الذي أكّد على أنّ الأسرة هي الخلية الأساسي للمجتمع وعلى الدولة حمايتها.

نسبة الخصوبة انخفضت بشكل متكرر خلال السنوات الأخيرة، وصولا إلى 1.8 طفل في سنة 2021، مقارنة بـ2.4 طفل في عام 2013

وبهدف بناء أسرة مستقرة ومتوازنة، قالت إنّ الوزارة وضعت جملة من برامج الإدماج الاجتماعي والاقتصادي الموجهة إلى أفراد الأسرة تراعي خصوصياتهم ومنها التربية على ثقافة تقاسم الأدوار ونبذ أشكال العنف الذي تفشى خاصة في الوسط الأسري بشكل ملحوظ وترسيخ قيم حسن التعامل والخطاب الإيجابي بهدف مناهضة الظواهر الاجتماعية السلبية والسلوكات المحفوفة بالمخاطر على غرار الإدمان بجميع أشكاله بما في ذلك الإدمان الإلكتروني وكل ما من شأنه أن يمس من مكاسب جميع أفراد الأسرة وخاصة النساء والأطفال وكبار السن.

وخلال أشغال مائدة مستديرة بعنوان “قراءة في التحوّلات الديمغرافية في تونس من منظور المساوة بين الجنسين، التأمت في أبريل المنقضي، بيّن المتدخلون أن تراجع معدّل الخصوبة في تونس، يعود إلى جملة من المؤشرات الاجتماعية والديمغرافية والثقافية تتعلق أساسا بعوامل الهجرة وارتفاع نسب الطلاق وتأخر سن الزواج.

وأوضح الرئيس المدير العام للديوان الوطني للأسرة والعمران البشري، محمد الدوعاجي، أن من أسباب انخفاض معدل الخصوبة، ارتفاع نسق هجرة التونسيين إلى الخارج وتزايد نسب الطلاق من جهة وتراجع نسب الزواج من جهة أخرى. وقدّر المتحدّث أن معدّل الخصوبة، من المستحسن أن يترواح بين 2 أو 2.4، للحفاظ على تركيبة ديمغرافية شابة.

ورأى الخبير الدولي في شؤون السكان والتنمية، حافظ شقير، أن انخفاض نسبة الخصوبة في تونس يعود بالأساس إلى مؤشرات تتعلق بعدم رغبة الشباب في إنجاب عدد كبير من الأطفال وميله إلى الحصول على أكثر استقلالية. ولفت إلى أن معدل الخصوبة في تونس حاليا يتراوح بين 1.7 و1.6 خلال سنة 2023، ويعد “معدلا منخفضا” غير أنه يبقى جيدا مقارنة بمعدّلات البلدان الأوروبية، وقدّر أن هذه النسبة قابلة للارتفاع في السنوات القادمة لكنها لن تتجاوز 2 في المئة، وذلك بالاعتماد على مؤشر القيم التي يتبناها الشباب على غرار الرغبة في تحقيق مشاريعه الذاتية ومواصلة التعليم والدراسة بدل الدخول في مؤسسة الزواج.

وأشار إلى أن معدل الخصوبة بدأ في الانخفاض في أوائل القرن العشرين، كنتاج لعدة عوامل منها وضع برنامج التنظيم العائلي فضلا عن الدور المحوري للإعلام في التثقيف والتوعوية وانتشار التعليم وتغير التركيبة الأسرية مؤكّدا على أهمية الإبقاء على برنامج التنظيم العائلي، من أجل تثقيف الشباب عن الحياة الجنسية والإنجابية واستعمال وسائل الحماية لضمان تباعد الولادات وضمان صحة جيدة للأم بدلا من تلقي معلومات خاطئة عن الجنسانية من الإنترنت والأقران في الوقت الذي يجب أن تكون كل من العائلة والمعلم والممرض مصدرا للحصول على هذه المعلومات.

16