النيل في قبضة سد النهضة.. مصر "لن تقف مكتوفة الأيدي"
في الثاني عشر من أكتوبر 2025، وأثناء افتتاح أسبوع القاهرة للمياه، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أن مصر “لن تقف مكتوفة الأيدي أمام النهج غير المسؤول الذي تتبعه إثيوبيا في إدارة السد”، مؤكداً أن بلاده رفضت وسترفض أي إجراءات أحادية تتجاهل الأعراف الدولية وتهدد استقرار شعوب حوض النيل. جاء هذا التصريح بعد أيام قليلة من الافتتاح الرسمي لسد النهضة الإثيوبي، ليعكس أن الموقف المصري لم يعد مقتصراً على بيانات دبلوماسية صادرة عن وزارة الخارجية، بل أصبح خطاباً سياسياً مباشراً من رأس الدولة، يضع القضية في إطارها الحقيقي: قضية وجودية لا مجرد خلاف فني.
هذا التصعيد السياسي يفتح الباب أمام قراءة أوسع لمعركة المياه في مصر. فمنذ آلاف السنين ارتبطت البلاد بالنيل ارتباطاً عضوياً جعل المؤرخ الإغريقي هيرودوت يصفها بأنها “هبة النيل”. لم يكن النهر مجرد مجرى مائي، بل أساساً لقيام حضارة اعتمدت على تدفقه في الزراعة والاستقرار البشري. ومع مرور القرون، تشكلت منظومة قانونية وسياسية لتنظيم حصص المياه، كان أبرزها اتفاقية 1959 مع السودان التي خصصت لمصر 55.5 مليار متر مكعب سنوياً. غير أن هذه المعادلة التي بدت مستقرة لعقود تعرضت لاختبار غير مسبوق مع بدء إثيوبيا في عام 2011 بناء سد النهضة الكبير على النيل الأزرق، وهو المشروع الذي غيّر موازين القوى المائية في المنطقة وأدخل مصر في معادلة جديدة لم تعد فيها المياه مجرد مورد طبيعي، بل قضية أمن قومي.
تصريح السيسي في أكتوبر 2025 بأن مصر "لن تقف مكتوفة الأيدي" أكد أن الملف لم يعد خلافاً فنياً بل قضية وجودية تمس الأمن القومي وتحدد مستقبل أكثر من مئة مليون مواطن
منذ اللحظة الأولى، تعاملت القاهرة مع السد باعتباره تهديداً مباشراً. فالنيل الأزرق يمد مصر بأكثر من ثلثي حصتها المائية، وأي تغيير في تدفقه ينعكس على حياة أكثر من مئة مليون مواطن يعتمدون بنسبة تفوق 95% على النهر للشرب والزراعة. ومع افتتاح السد رسمياً دون اتفاق قانوني ملزم، أصبح الخطر ملموساً. التقديرات تشير إلى أن مصر قد تواجه انخفاضاً في التدفق يصل إلى 30% في سنوات الجفاف، وهو ما يعني تراجعاً حاداً في إنتاج الغذاء وتهديداً مباشراً لاستقرار الدلتا التي تعد قلب النشاط الزراعي والسكاني في البلاد.
في المقابل، ترى إثيوبيا في السد مشروعاً قومياً بامتياز. بكلفة تقارب خمسة مليارات دولار وقدرة إنتاجية تصل إلى أكثر من خمسة آلاف ميغاوات من الكهرباء، تعتبره أداة لتحقيق التنمية والاستقلال الاقتصادي، ورمزاً للفخر الوطني. هذا البعد جعل أي تنازل في المفاوضات أمراً شديد الحساسية داخلياً، وهو ما يفسر رفضها المتكرر لأي اتفاق يقيّد سيادتها في إدارة وتشغيل السد. ومن الجانب المصري، يُنظر إلى هذا الموقف باعتباره محاولة لإعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي على حساب الحقوق التاريخية لدول المصب.
المفاوضات التي جرت على مدى سنوات تحت رعاية الاتحاد الإفريقي وأطراف دولية مثل الولايات المتحدة لم تسفر عن نتائج حاسمة. ومع كل عملية ملء جديدة، يتجدد التوتر وتتزايد المخاوف في القاهرة. وفي أكتوبر 2025، اتهمت مصر إثيوبيا بالتشغيل غير المسؤول للسد بعد فيضانات مفاجئة ضربت مناطق في السودان ومصر، ما أضاف بعداً جديداً للأزمة يتمثل في المخاطر البيئية غير المتوقعة.
العامل المناخي زاد المشهد تعقيداً. فالتغيرات المناخية جعلت التنبؤ بتدفقات النيل أكثر صعوبة. تقارير متخصصة في حوض النيل تشير إلى أن الاحترار العالمي قد يؤدي إلى زيادة الأمطار في المناطق العليا، لكن ارتفاع درجات الحرارة سيقلل من كميات المياه المتاحة بنسبة قد تصل إلى 20% بحلول منتصف القرن. هذا التناقض يعني أن المنطقة قد تواجه فيضانات مدمرة في بعض السنوات وجفافاً قاسياً في سنوات أخرى. فتح مفيض توشكي مؤخراً لاستيعاب فيضانات غير مسبوقة كان مؤشراً على أن التحدي لم يعد سياسياً فقط، بل أصبح بيئياً أيضاً. في هذا السياق، يتحول السد من مشروع تنموي إلى عنصر قد يفاقم آثار الكوارث الطبيعية، سواء عن قصد أو نتيجة سوء إدارة.
أمام هذه التحديات، تبنت مصر إستراتيجية متعددة المسارات. على الصعيد الدبلوماسي، سعت إلى تدويل القضية عبر مجلس الأمن والأمم المتحدة، محاولةً إقناع المجتمع الدولي بأن النزاع لا يخص دولتين فقط، بل يهدد الاستقرار الإقليمي برمته. طرحت القاهرة مفهوم “العدالة المائية” كإطار أخلاقي وقانوني جديد، وإن كان غياب آليات دولية ملزمة لتسوية نزاعات المياه العابرة للحدود يحد من فعالية هذا المسار.
ما يجري حول النيل ليس مجرد خلاف على حصص مائية، بل اختبار لقدرة الدول على التعايش مع واقع جديد يفرضه المناخ والسياسة معاً. مصر تجد نفسها في قلب هذا الاختبار
في الداخل، اتجهت مصر إلى تعزيز قدراتها الذاتية عبر الاستثمار في مشروعات تحلية المياه ومعالجة الصرف الزراعي. محطة الدلتا الجديدة، على سبيل المثال، تهدف إلى إنتاج 1.5 مليون متر مكعب يومياً بحلول 2030، وهو رقم يعكس حجم الرهان على التكنولوجيا لتعويض النقص المحتمل. كما أطلقت الحكومة مشروع “النهر الجديد” لإعادة توزيع المياه وتخفيف الضغط على الدلتا، إلى جانب برامج لإعادة تأهيل الترع وتعميم أنظمة الري الحديثة. هذه الإجراءات لا تلغي الاعتماد على النيل، لكنها تمثل محاولة لتقليل المخاطر وربط الأمن المائي المصري بموارد أكثر تنوعاً.
القضية المصرية مع سد النهضة ليست معزولة عن سياق عالمي أوسع. في العراق، أدى بناء السدود في تركيا وإيران إلى انخفاض تدفق دجلة والفرات بنسبة تقارب 50%، ما تسبب في أزمة مائية غير مسبوقة عام 2025 هددت الزراعة والحياة اليومية. في المغرب العربي، يواجه المغرب والجزائر خلافات حول استغلال المياه الجوفية المشتركة، بينما يفاقم الجفاف الممتد الضغوط على الأمن الغذائي. هذه الأمثلة توضح أن أزمة المياه لم تعد شأناً محلياً، بل جزءاً من مشكلة كونية تعكس جدلية المورد الطبيعي والسيادة الوطنية في عصر يزداد فيه الشح المائي.
من هذا المنظور، تبدو الحاجة ملحة إلى إطار تعاوني دولي جديد يتجاوز الاتفاقيات الثنائية التقليدية. فالمياه، بخلاف النفط أو الغاز، ليست مورداً يمكن الاستغناء عنه أو استبداله. إنها شريان حياة مشترك، وأي إخلال بتوزيعها العادل يهدد الاستقرار الإقليمي والعالمي. تجربة مصر مع سد النهضة تقدم نموذجاً لكيفية تحول مورد طبيعي إلى محور صراع معقد تتداخل فيه السياسة والاقتصاد والمناخ.
المستقبل سيعتمد على قدرة الأطراف على تحويل النزاع إلى فرصة للتعاون. بالنسبة لإثيوبيا، يمكن أن يكون السد أداة لتعزيز مكانتها الإقليمية إذا ما تم تشغيله في إطار شراكة مسؤولة تراعي مصالح دول المصب. وبالنسبة لمصر، يمثل التحدي فرصة لإثبات قدرتها على التكيف من خلال الابتكار التكنولوجي والدبلوماسية الذكية. نجاح القاهرة في إدارة هذه الأزمة لن يكون إنجازاً وطنياً فحسب، بل قد يشكل نموذجاً يحتذى به في مناطق أخرى من العالم تواجه تهديدات مشابهة.
في النهاية، ما يجري حول النيل ليس مجرد خلاف على حصص مائية، بل اختبار لقدرة الدول على التعايش مع واقع جديد يفرضه المناخ والسياسة معاً. مصر تجد نفسها في قلب هذا الاختبار، بين إرث حضاري طويل قائم على النهر، وواقع معاصر يفرض إعادة تعريف العلاقة معه. المعركة ليست حول سد واحد أو موسم فيضان، بل حول مستقبل الأمن الغذائي والاجتماعي في بلد يتجاوز سكانه 110 ملايين نسمة. وإذا كان التاريخ قد علّم المصريين أن النيل مصدر الحياة، فإن الحاضر يفرض عليهم أن يكونوا أكثر استعداداً لحمايته وإعادة صياغة علاقتهم به.