النموذج الأنجلوساكسوني والنموذج التونسي: إعادة تعريف الحق في الإضراب

الحق في الإضراب رغم كونه ركيزة من ركائز الحريات النقابية لا يُمارس في الأنظمة الديمقراطية بوصفه حقًا مطلقًا بل يخضع لضوابط قانونية صارمة حتى لا يتعارض مع المصلحة العامة أو يهدد الاستقرار.
الثلاثاء 2025/08/19
مستقبل تونس لا يُبنى بالإضرابات

التحديات الاقتصادية التي تواجهها تونس، تتطلب تعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف الأطراف الوطنية. ويظل الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT)  طرفًا فاعلًا في الساحة، بمطالبه التي تثير اهتمامًا واسعًا. لكن، هل تعبّر هذه المطالب عن حاجة حقيقية، أم أنها أدوات ضغط تعرقل جهود التنمية والاستقرار؟

لفهم تعقيدات هذا الملف، لا بد من عرضه في سياقه العام؛ الحكومة التونسية، ممثلة بالرئيس قيس سعيد، تجد نفسها في مواجهة مطالب تبدو عادلة في ظاهرها، لكنها تتسم بقدر من الطوباوية في ظل الوضع الاقتصادي الراهن، بعد أن تراكمت عليها الأزمات منذ الثورة، وهي تواجه اليوم تحديًا غير بسيط، يتمثل في الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، وضبط المالية العامة لتفادي الانهيار الاقتصادي.

الرئيس سعيد، الذي اختار المضي في مسار إصلاحي رغم كلفته السياسية، يدرك تمامًا أن أيّ خطوة غير محسوبة قد تؤدي إلى نتائج غير متوقعة، وربما تعمّق من أزمة البلاد.

مطالب الاتحاد، وإن كانت مشروعة من حيث المبدأ، تتحول إلى عبء ثقيل في ظل غياب هوامش المناورة. والإضرابات المتكررة التي تشلّ مرافق حيوية، تنطوي على مفارقة مؤلمة. فهي تهدف إلى الدفاع عن مصالح العمال، لكنها تنتهي بإلحاق الضرر بالطبقات الهشة التي يُفترض أن تحميها.

الأزمة في تونس جزء من أزمة عالمية. يكفي أن ننظر حولنا لنتأكد من ذلك. وإذا كان على تونس أن تختار اليوم بين النموذجين، النموذج الأنجلوساكسوني والنموذج القاري الأوروبي، يجب أن تختار دون تردد النموذج الأنجلوساكسوني

تُظهر التجارب أن الحق في الإضراب، رغم كونه من ركائز الحريات النقابية، لا يُمارس في الأنظمة الديمقراطية بوصفه حقًا مطلقًا، بل يُخضع لضوابط قانونية ومؤسسية صارمة حينما يتعارض مع المصلحة العامة أو يهدد استقرار الدولة.

عموماً، يُمكن تمييز اتجاهين رئيسيين في العالم الغربي: النموذج الأنجلوساكسوني الذي تتبناه دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، والنموذج القاري الأوروبي الذي يهيمن في دول مثل فرنسا وألمانيا وهولندا. كلا النموذجين ينطلق من خلفية ديمقراطية، لكنهما يختلفان جذريًا في فلسفة العلاقة بين الدولة والنقابات.

في فرنسا، مثلًا، واجهت السلطات احتجاجات “السترات الصفراء” عام 2023 بفرض غرامات على الإضرابات غير القانونية، في محاولة لضبط التوازن بين التعبير الشعبي والنظام العام. أما ألمانيا، فتتبنى التحكيم الإلزامي كآلية مؤسسية لتفادي التصعيد، ما يعكس فلسفة قانونية ترى في التفاوض المنظّم بديلاً عن المواجهة المفتوحة.

النموذج الأنجلوساكسوني يتبنى تقليص النفوذ النقابي لصالح السوق. هذا النموذج يُعلي من شأن حرية السوق ويُقلل من تدخل الدولة في الاقتصاد، ما ينعكس على السياسات تجاه النقابات. في المملكة المتحدة، شكّلت حكومة مارغريت تاتشر في الثمانينات نقطة تحول حاسمة، حيث واجهت إضرابات عمال المناجم بسياسات صارمة هدفت إلى تقليص نفوذ النقابات، من خلال تشريعات تُقيّد قدرتها على الدعوة للإضراب دون تصويت داخلي، وتمنع الإضرابات التضامنية، وتفرض عقوبات مالية على المخالفين. هذه الإجراءات لم تكن مجرد رد فعل ظرفي، بل جزء من مشروع سياسي أوسع لتفكيك ما اعتبرته تاتشر “هيمنة غير ديمقراطية” للنقابات على الحياة الاقتصادية والسياسية.

الحق في الإضراب، وإن كان مكفولًا، يخضع لإعادة تعريف مستمرة وفقًا للظرفية السياسية والاقتصادية، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول حدود الحريات في السياقات الديمقراطية، ودور الدولة في ضبط التوازن بين الحقوق الفردية والمصلحة الجماعية.

إذا ما قارنّا التجربة التونسية بالنموذج القاري الأوروبي، نجد تشابهًا في الاعتراف المؤسسي بالنقابات، لكن دون وجود آليات تنظيمية صارمة مثل التحكيم الإلزامي أو الضوابط القانونية الدقيقة التي تُحدد شروط الإضراب. أما إذا نظرنا إليها من زاوية النموذج الأنجلوساكسوني، فسنلاحظ تاريخيا غياب الإرادة السياسية لتقليص نفوذ النقابات، بل إن الدولة كثيرًا ما لجأت إليها كوسيط في الأزمات، ما أضفى على الاتحاد دورًا شبه سياسي يتجاوز الوظيفة النقابية التقليدية.

وفي حين مارست النقابات في تونس الإضراب كحق مكتسب، فإن غياب إطار قانوني تفصيلي يُنظّم هذا الحق جعل الدولة في موقع رد الفعل بدلًا من الفعل. وكثيرًا ما استخدمت الإضرابات، خصوصًا في القطاع العام، كورقة ضغط في مفاوضات سياسية، ما أضعف من قدرتها على تحقيق مطالب اجتماعية دون أن تُحمّل الاقتصاد كلفة إضافية. ففي غياب آليات مستقلة للتحكيم أو فض النزاعات، يصبح كل إضراب مشروع أزمة وطنية بدلًا من كونه أداة تفاوض.

لا أحد ينكر حق العمال في المطالبة بتحسين أوضاعهم، لكن يجب أن تكون هذه المطالب ضمن حدود الممكن، لا أن تتحول إلى مطالب تعجيزية، تضطر الدولة إلى تمويلها إما بطباعة النقود، أو بالاقتراض، ما يرفع الدين العام

الحق في الإضراب، لكي يكون فعّالًا وعادلًا، يحتاج إلى إطار قانوني ومؤسسي يُوازن بين حرية التعبير وحماية المصلحة العامة. فغياب هذا التوازن يُحوّل الإضراب من أداة اجتماعية إلى ساحة صراع سياسي، ويُضعف من قدرة الدولة على إدارة التحولات الاقتصادية والاجتماعية بشكل مستدام.

لذلك، فإن إعادة تعريف هذا الحق في تونس لا تعني تقليصه، بل تنظيمه ضمن آليات واضحة تضمن الشفافية، وتُحدد شروطه، وتُفعّل أدوات الوساطة والتحكيم، بما يُعزز من دور النقابات كفاعل اجتماعي لا مجرد أداة ضغط سياسي.

الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي ورث اقتصادا هشا، يتعرض لانتقادات غير منصفة في الكثير من الأحيان. فهو ليس مسؤولًا عن تراكم ديون عشرات السنين، ولا عن السياسات الاقتصادية السابقة التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع. اتهامه بالتقشف يغفل حقيقة أنه يسعى جاهدًا لتجنب مصير دول عديدة انهارت اقتصاديًا بسبب غياب الإصلاحات.

الإصلاحات التي تبنتها الحكومة، مثل تخفيض الدعم، ليست خيارًا سياسيًا بل ضرورة لاحتواء العجز المالي. واستعادة الدعم الكامل على المحروقات والمواد الأساسية، سيكلف الخزينة المليارات من الدينارات، في وقت أصبحت فيه سياسة “استهداف الدعم” للفئات الفقيرة الخيار الوحيد العادل والممكن.

لا أحد ينكر حق العمال في المطالبة بتحسين أوضاعهم، لكن يجب أن تكون هذه المطالب ضمن حدود الممكن، لا أن تتحول إلى مطالب تعجيزية، تضطر الدولة إلى تمويلها إما بطباعة النقود، أو بالاقتراض، ما يرفع الدين العام.

الاتحاد، الذي يطمح إلى أن يكون شريكًا حقيقيًا في البناء، مطالب بتبني خطاب واقعي يراعي ظروف البلاد. فالمكاسب الظرفية التي قد يحقّقها عبر التصعيد لن تعوّض الخسائر الجسيمة التي سيتكبّدها الجميع إذا انهارت أسس الاقتصاد الوطني.

الاتحاد العام للشغل يمثل قوة اجتماعية كبرى، لكنه مطالب بأن يدرك أن الاقتصاد المنهك لا يحتمل مزيدًا من الضغوط. فالوطن ليس ملكًا لحكومة أو نقابة، بل للشعب الذي يدفع ثمن أيّ مواجهة.

الأزمة في تونس جزء من أزمة عالمية. يكفي أن ننظر حولنا لنتأكد من ذلك. وإذا كان على تونس أن تختار اليوم بين النموذجين، النموذج الأنجلوساكسوني والنموذج القاري الأوروبي، يجب أن تختار دون تردد النموذج الأنجلوساكسوني.

مستقبل تونس لا يُبنى بالإضرابات، بل بالحوار، والتخطيط، والعمل المشترك.

8