المسؤولون عن اختزال حرب غزة في المساعدات الإنسانية

اسم مصر تم الزج به من قبل إسرائيل وحماس وتحميلها جزءا من مسؤولية تعثر دخول المساعدات واتهامها زورا بغلق معبر رفح.
الأحد 2025/08/03
حملة ملتبسة لاستهداف الدور المصري رغم المساعدات

اختزلت النتيجة التي وصلت إليها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في ملف منع أو دخول المساعدات الإنسانية، وشُغلت قوى إقليمية ودولية عديدة بالمشاهد القاسية التي تتناقلها وكالات الأنباء والفضائيات، وأصبح همّ الكثير من القادة والزعماء تخفيف العبء المعنوي، وأرسل الرئيس الأميركي دونالد ترامب مبعوثه الخاص إلى غزة ستيف ويتكوف وسفيره في إسرائيل مايك هاكابي، الجمعة، للوقوف على حجم المأساة، وما إذا كانت هناك إبادة ومجاعة حقيقية أم لا؟

أشارت الزيارة إلى أن صور الأقمار الاصطناعية والمعلومات التي تصله عبر أجهزة الاستخبارات غير موثوق فيها، ولا تعرف جيدا ما يجري على الأرض، أو أن البيانات التي تصل من الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو مضللة، كما أشار الكاتب الأميركي توماس فريدمان في مقال نشره في صحيفة "نيويورك تايمز" قبل أيام بعنوان "كيف خدع نتنياهو ترامب في غزة."

كل الأطراف المعنية بما يجري في غزة تعلم حجم الأزمة وتشابكاتها وتفريعاتها، والولايات المتحدة ليست في حاجة إلى إرسال مبعوث، لكن هناك حاجة تكتيكية للتركيز على المكونات الإنسانية، اتفقت أطراف مختلفة عليها، بشكل مباشر أو ضمني، للتنصل من العمل الشائك الذي تتطلبه مفاوضات عقد صفقة لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، والوصول إلى وقف لإطلاق النار، والدخول في المرحلة التالية من وقف الحرب، وجميعها خطوات تتطلب جهودا مضنية، ومواجهة تحديات متراكمة، لا أحد لديه الاستعداد الكافي لمواجهتها.

وكان القفز على البعد الإنساني حلا عاطفيا، قد يحقق لمن دفعوا إليه بعضا من أهدافهم التي يسعون إليها. وللمزيد من التشويش تم الزج باسم مصر من قبل إسرائيل وحماس، وتحميلها جزءا من مسؤولية تعثر دخول المساعدات، واتهامها زورا بغلق معبر رفح.

◄ كل الأطراف المعنية بما يجري في غزة تعلم حجم الأزمة وتشابكاتها وتفريعاتها، والولايات المتحدة ليست في حاجة إلى إرسال مبعوث

هناك ثلاثة جبهات رئيسية لها مصلحة في تضخيم الشق الإنساني في حرب غزة، وجميعها دخلت عليه للتغطية على أو التخفيف من العجز في تحقيق اختراق في الشق السياسي أو تجاوزه حاليا، والإيحاء بوجود اهتمام بمأساة سكان غزة، وعدم الموافقة على استمرار المجاعة، والتنصل من سيناريو الإبادة أو التهجير التدريجي.

الجبهة الأولى، هي الولايات المتحدة، فلا يوجد شك في تواطؤ ترامب مع مخططات نتنياهو، والاتفاق معه على استثمار الوقت لاستكمال عملية تفريغ غزة من سكانها، وقدمها الرئيس الأميركي كمقترح بعد أيام قليلة من دخوله البيت الأبيض، وتم التحايل عليه بالتراجع تارة والتهدئة تارة أخرى، ولم يتخل عنه الرجل تماما، وكان يعود إليه بصياغات متباينة، حتى داهمته أزمة المساعدات أخيرا، ومنحته فرصة لإدارتها بصورة جديدة كعملية سياسية، وبعد فشل مؤسسة غزة للمساعدات الإنسانية في أداء مهمتها، بسبب فضيحة ضحايا لقوا مصرعهم وهم على أبوابها، بدأت واشنطن توظف التداعيات السلبية بطريقة مراوغة.

وبدلا من الذهاب إلى وقف إطلاق النار، والضغط على نتنياهو لتوقيع صفقة متوازنة، أرسل ترامب مبعوثه الخاص إلى إسرائيل وكلفه بزيارة استعراضية سينمائية إلى غزة، بعنوان إنساني جذاب، وجاء ستيف ويتكوف ورحل ولم يتطرق سوى إلى هذا الشق، ويمكن أن يستغرق وقتا طويلا، ويعفي واشنطن من المسؤولية السياسية عن الحل، ويبعد شبح الاهتمام الدولي عن تشجيع الاعتراف بدولة فلسطينية، الذي رفضته الإدارة الأميركية، لكن تخشى أن يتحول إلى كرة ثلج تحرج ترامب، فكان اهتمامه بالبحث عن آلية لإدخال المساعدات كمسكّن لوقف الضجيج الذي يتزايد حوله.

الجبهة الثانية، هي إسرائيل، حيث درج رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو على التنصل من أيّ محاولة سياسية تقوده إلى التوقيع على صفقة مع حماس تؤدي إلى وقف الحرب، وبالغ عمدا في الحصار وتقزيم عملية دخول المساعدات وإسنادها إلى مؤسسة ارتكبت جرائم عدة، ليرضي اليمين المتطرف ويؤكد أنه لم يرضخ لخصومه، ويحرف الحرب عن شكلها السياسي ويضعها دوما في بعد إنساني، يجرف مع الوقت طموحات العودة إلى مفاوضات تناقش مستقبل القضية الفلسطينية، وتفاصيلها الخاصة بالحدود واللاجئين وحق العودة والمستوطنات والقدس الشرقية، ويمنح لنفسه وقتا للمزيد من تقطيع أوصال الضفة الغربية، وهو ما يسعى لتطبيقه في غزة.

نجحت ممارسات نتنياهو في أن يجعل العالم يتوقف عند ما يدور في القطاع من زاوية إنسانية، وينحّي زوايا أخرى فلسطينية ذات أهمية إستراتيجية، فالكل يتحدث عن عدد الشاحنات التي تدخل، ونوعية الطائرات التي تلقي مساعدات ومن أيّ دولة، ويتأسى الكثيرون على مشاهد الأطفال وهم جوعى الذين منحتهم بعض الفضائيات اهتماما لافتا، كأن هؤلاء هم القضية وحدها، واختفى الحديث عن انسحاب إسرائيل من محاور نتساريم وموراغ وفيلادلفيا ووقف ضم المزيد من الأراضي على حدود غزة، وغياب الإشارة إلى شكل القوات العاملة في غزة، وبات لا صوت يعلو فوق صوت المساعدات الإنسانية، وهو غاية ما يريده نتنياهو.

◄ ممارسات نتنياهو نجحت في أن يجعل العالم يتوقف عند ما يدور في القطاع من زاوية إنسانية، وينحّي زوايا أخرى فلسطينية ذات أهمية إستراتيجية

الجبهة الثالثة، وهي حماس، فقد اعتقدت الحركة في التركيز على الشق الإنساني أنها وجدت فرصة في إقامة الحجة على بشاعة ما تقوم به إسرائيل، متجاهلة أن إظهار هذه البشاعة أمر مقصود، لإرهاب الفلسطينيين المتمسكين بالبقاء في غزة، وحثهم على الرحيل عنها، قسريا أو طوعيا، وربما أغمضت حماس عينيها عن هذه النتيجة الواضحة، فما يعنيها إثبات عدم قدرة قوات الاحتلال على اقتلاعها من جذورها وإجبارها على تسليم المحتجزين، بينما يبدو أن إسرائيل تركتهم لتحصل على حرية حركة عسكرية واسعة في غزة، وتستغل حماس كعقبة أمام وقف الحرب.

تكمن سعادة حماس في تحرك المجتمع الدولي بعد انتشار مشاهد الجوع، وأنها حسبت أن العالم سيسعى لوقف الحرب فورا، لكن ما حدث أن وجود الحركة في غزة أصبح حجر عثرة لوقف الحرب، والاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما تعرفه تل أبيب جيدا، ولفرملة طوفان الاعترافات روجت إسرائيل سريعا أن ما تعتزم القيام به فرنسا وبريطانيا وكندا وغيرهم يصبّ في صالح حماس، ويعد مكافأة لها، ولذلك جاء بيان مؤتمر نيويورك حول حل الدولتين مشروطا بتخلي حماس عن سيطرتها على غزة وتسليم سلاحها.

تستشعر الحركة بالخطورة، وتضاعف من جهودها للاستفادة من الشق الإنساني، وهو ما تقاطعت فيه مع إسرائيل، ووضعها في خانة واحدة معها، وطغت المساعدات في أجندة حماس على غيرها من الملفات المصيرية، مثل انسحاب قوات الاحتلال ووقف الحرب، وعلمت أن هذه النتيجة لن تُبقي الحركة على قيد الحياة السياسية والعسكرية، حيث تهيئ الأجواء للحديث عن تسوية للقضية الفلسطينية، لا وجود لحماس فيها.

تقع مسؤولية حصر ما يجري في الشق الإنساني على عاتق الولايات المتحدة وإسرائيل وحماس، والمفاتيح المؤثرة التي تملكها كل جبهة تخلق صعوبة للتطرق إلى ملفات أخرى، في هذه المرحلة على الأقل، لأن البحث عن حل لتنظيم دخول المساعدات والآلية الناجعة لها يستغرق وقتا، بسبب الحرص المفرط على توظيف التجاذبات، وما يحدث لتخفيف مشاهد المجاعة المؤذية سيكون مؤقتا، بما يمكن من العودة إليها مرة ثانية لاستئناف الكر والفر وراء الشاحنات، والهروب من قضايا حيوية.

4