التهجير.. معركة دبلوماسية بين مصر وإسرائيل
وضع وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي قضية التهجير في خندق المستحيلات المعروفة عربيا: الغول والعنقاء والخل الوفي، حيث تحدث بوضوح مع شبكة “سي إن إن” الأميركية، وقال إن التهجير “خط أحمر، لن نقبل به، لن نشارك فيه، ولن نسمح بحدوثه.” وتضاف هذه العبارة إلى تصريحات أخرى في سياقات مختلفة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، لتؤكد أن رفض تهجير سكان قطاع غزة يمتد إلى أيّ دولة.
الواضح أن اختيار الشبكة الأميركية لتوصيل الرسالة بهذه القوة، هدفه جمهور ونخب في دول غربية، أبدت تفهما لمقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن التهجير، أو تحويل غزة إلى ريفييرا، وعدم ممانعة خفية لإسرائيل، ودحض اتهامات وجهها خصوم للدولة المصرية باستجابتها لما يمارس عليها من ضغوط لقبول التوطين.
جاءت تصريحات عبدالعاطي، في وقت انتشرت فيه أخبار حول محادثات تجريها إسرائيل مع عدد من الدول أو أشباه الدول لاستقبال أعداد كبيرة من سكان غزة، على سبيل الهجرة الطوعية أو القسرية، تحت ضغط العمليات العسكرية الوحشية التي تقوم بها قوات الاحتلال في القطاع، ومنع دخول المساعدات الإنسانية إليه عبر معبر رفح المصري، كوسيلة لإجبار الناس على الرحيل عن أرضهم.
ذُكر اسم دولة جنوب السودان، بجوار جهات أخرى، لكن الحديث عن هذه الدولة اكتسب مصداقية أكبر مع قيام شارين هاسكل نائبة وزير خارجية إسرائيل بزيارة إلى جوبا قبل أيام، ومع النفي الرسمي من جانب المسؤولين في جنوب السودان، إلا أن احتمال استقبالها لغزيّين وجد صدى إيجابيا، بحكم الروابط السياسية الوثيقة التي تربط جوبا بإسرائيل، وحاجتها إلى دعمها في الحصول على مساعدات دولية، تنقذها من مجاعة مستفحلة، وسط عدم توفير الأمن والاستقرار في ربوع الدولة، ما يمنح النظام الحاكم في جوبا دعما ماديا في مواجهة معارضيه.
القاهرة تستطيع أن تحرز أهدافا سهلة في مرمى تل أبيب، مع تعاظم الانتهاكات التي ارتكبت في غزة، والخلافات التي نشبت بين إسرائيل ودول عدة في العالم، وما يمكن أن يقود إليه تطبيق التهجير من مخاطر
قد تكون النقطة الرمزية المهمة التي يمثلها اختيار جنوب السودان كمنطقة ممر سابقا أو دولة مجاورة لإثيوبيا حاليا، هي الارتباط غير المباشر بالفضيحة الشهيرة المتعلقة بيهود “الفلاشا”، والتي أثيرت في منتصف عقد الثمانينات من القرن الماضي خلال عهد الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري، قبل انفصال جنوب السودان.
تكمن الرمزية هنا في أن إسرائيل، كما نجحت بالتعاون مع الولايات المتحدة وإثيوبيا والنظام الحاكم في السودان وقتها، في استقبال نحو 25 ألف من اليهود المعروفين بـ”الفلاشا” لتعزيز عدد سكانها، لن تعدم وسيلة في تهجير أضعافهم إلى دولة جنوب السودان، وتنطوي هذه العملية، حال نجاحها، على إشارة تخدم اليهود المتطرفين وفكرتهم تجاه ما يعتبرونهم “أغيارا”، بينما الفلسطينيون هم أصحاب الأرض والحق.
تحركت مصر دبلوماسيا نحو جنوب السودان مبكرا، وقبل أن يتم الإفصاح عن اسمها كمكان لاستقبال غزييّن، كما تحركت في اتجاهات أخرى، لتحذير وتنبيه وتوعية من وقع اختيار إسرائيل عليهم للقيام بهذه المهمة، التي تمثل ضربة قوية للأمن القومي المصري. فخلوّ غزة من السكان أو تقليصهم يعني تمكين إسرائيل من تغيير الجغرافيا في المنطقة، وفرض سيطرتها على القطاع بسهولة، ووضع تحديات أمنية مضاعفة، وعلى مصر مواجهتها بالطريقة المناسبة، وقد يكون الخيار العسكري في مقدمتها.
لا تريد القاهرة الوصول إلى هذه المرحلة من الخشونة، وتسعى إلى قطع الطريق على سيناريو التهجير، ولن تكتفي بممانعتها لاستقبالهم في سيناء، فالبدائل التي أشارت إليها إسرائيل قد تؤدي إلى التجاوب معها، ما لم تقم مصر بجهود دبلوماسية كبيرة لتبديدها، وهو ما عكسه حديث وزير خارجيتها “لن نسمح، لن يحدث”، كتعبير عن ثقة مفرطة، لها ما يعززها، فخروج مئات الآلاف من غزة يحتاج وقتا طويلا في ظل تشبث السكان بأرضهم، ومع انسداد المرور من جهة مصر، سيكون البديل خروجهم من البحر.
لعل فشل تجربة الميناء البحري الذي شيدته الولايات المتحدة وأنفقت عليه 300 مليون دولار، يؤكد أن عملية الترحيل عبر البحر المتوسط ليست سهلة، فقد كان الهدف المعلن إدخال المساعدات، بينما الهدف الخفي تسهيل خروج الفلسطينيين.
القاهرة تسعى إلى قطع الطريق على سيناريو التهجير، ولن تكتفي بممانعتها لاستقبالهم في سيناء، فالبدائل التي أشارت إليها إسرائيل قد تؤدي إلى التجاوب معها، ما لم تقم مصر بجهود دبلوماسية كبيرة لتبديدها
لدى القاهرة ورقة مهمة ربما لا ينتبه إليها الكثيرون، يمكن توظيفها في الضغط سياسيا على دول الاتحاد الأوروبي، تتعلق باستضافة الملايين من اللاجئين والمقيمين في مصر.
وبعضنا أو كلنا يذكر التهديد المباشر الذي وجهه الرئيس السيسي للمستشار الألماني السابق أولاف شولتس، بعد اندلاع حرب غزة، وقد لوّح فيه بفتح حدود مصر أمام خروج أعداد غفيرة من اللاجئين نحو ليبيا، ومنها إلى دول جنوب أوروبا عبر البحر المتوسط، إذا صممت الدول الغربية على مساعدة إسرائيل في خطة التوطين، أو جرى التساهل معها في ترحيل فلسطينيين من غزة، بعدها تغير الصوت الأوروبي في هذه القضية، ولم يظهر تأييدا، بل أظهر رفضا، ودعما لفكرة الدولة الفلسطينية.
سعت مصر إلى التوصل لوقف إطلاق النار في غزة مؤقتا، تمهيدا لعقد اتفاق حول وقف الحرب، كوسيلة لعرقلة مخطط التهجير، في هذه المرحلة على الأقل، والعمل على تغيير الأوضاع في القطاع أمنيا وسياسيا، وتوفير درجة من الهدوء والاستقرار، تكفي لكبح تفكير إسرائيل في زيادة إرهاق سكان غزة، وإجبارهم على الاختيار بين الموت والتهجير، وتتحرك القاهرة دبلوماسيا حاليا للشروع في تنفيذ خطة إعادة إعمار غزة، باعتبارها وسيلة تفرمل أو تردع خطة توطين يفضي تنفيذها إلى تصفية القضية الفلسطينية، مع هجمة استيطانية جديدة يقودها اليمين المتطرف في الضفة الغربية.
شهدت العلاقات بين مصر وإسرائيل توترات عديدة منذ التوقيع على اتفاقية سلام قبل نحو خمسين عاما، لكنها لم توضع على المحك، كما هو الحال في الوقت الراهن، وحرص الطرفان على التمسك بالسلام، وتجنبا الدخول في تصعيد عسكري مباشر، وحافظا على حد أدنى من الروابط السياسية، وحد أكبر من التعاون الاقتصادي، إلا أن ملف التهجير له خصوصية عند الجانبين، والأهداف فيه متصادمة، وقد يسفر عن خلاف أعمق، ويضع مطبات أخطر، إذا تخلى الطرفان عن التصرف معه بشكل ناعم.
تظل المعركة الدبلوماسية محكومة بضوابط قانونية، وتظهر حجم نفوذ كليهما مع دول العالم، ومدى القبول أو الرفض الذي تحظى به كل دولة. تستطيع القاهرة أن تحرز أهدافا سهلة في مرمى تل أبيب، مع تعاظم الانتهاكات التي ارتكبت في غزة، والخلافات التي نشبت بين إسرائيل ودول عدة في العالم، وما يمكن أن يقود إليه تطبيق التهجير من مخاطر على الدول التي تقبل بتوطين الفلسطينيين فيها، فهناك تكلفة مادية ومعنوية باهظة، فضلا عن عدم ضمان التخلي عن عودتهم إلى وطنهم، ما يمثل إزعاجا بعيدا لإسرائيل والدولة أو الدول المضيفة، وكل من ساعد في طردهم من أرضهم.