التعليم: الجانب المنسي في الأزمة الليبية
التعليم ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هو الركيزة التي يمكن أن تعيد بناء الدول وتمنحها مستقبلًا مختلفًا. في كل التجارب الإنسانية، كان التعليم هو المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، وهو ما أثبتته الدراسات الحديثة التي تؤكد أن الاستثمار في التعليم يرفع من مستوى الإنتاجية ويزيد من الدخل الفردي ويحسن مستويات المعيشة. ليبيا، التي تعتمد بشكل شبه كامل على النفط، كان يمكن أن تجعل من التعليم جسرًا نحو اقتصاد متنوع قائم على المعرفة، لكن هذا الجانب ظل منسيًا وسط صخب السياسة وضجيج السلاح، حتى صار التعليم عبئًا بدلًا من أن يكون محركًا للنمو، وهو ما هدد مستقبل الأجيال والاقتصاد معًا.
إذا عدنا بالذاكرة إلى البدايات، نجد أن التعليم في ليبيا بدأ من الكُتّاب، حيث كان الأطفال يجلسون على الحصير في زوايا المساجد أو البيوت البسيطة، يتعلمون الحروف الأولى، ويحفظون القرآن الكريم، ويتلقون مبادئ الحساب. لم يكن الأمر يخلو من القسوة أحيانًا، إذ كان شيخ الكُتّاب يستخدم العصا لتأديب الصغار، لكن تلك التجربة صنعت أجيالًا تحمل في ذاكرتها صورة التعليم كرسالة أخلاقية قبل أن يكون مجرد مهنة. ومع الاستقلال، تطورت المنظومة التعليمية تدريجيًا، فأنشئت المدارس النظامية والجامعات، وأصبح التعليم مجانيًا ومتاحًا للجميع. في عهد القذافي، ورغم الطابع السلطوي للنظام، شهدت ليبيا تحسنًا ملحوظًا في معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، إذ ارتفعت من 25% قبل 1969 إلى 87%، ووصلت نسبة الحاصلين على شهادات جامعية إلى 25% من السكان. كان التعليم في تلك المرحلة أداة لبناء رأس المال البشري، وساهم في تقليل البطالة وتعزيز الإنتاجية في قطاعات مثل الصحة والزراعة.
التعليم في ليبيا لم يعد مجرد قضية اجتماعية بل أصبح معضلة اقتصادية فالمناهج قديمة والمهارات لا تتطابق مع السوق وهجرة العقول مستمرة تاركة الاقتصاد بلا موارد بشرية مؤهلة
لكن هذا التقدم ظل هشًا، لأن الاقتصاد الليبي لم يتنوع، وبقي معتمدًا بنسبة 90% على النفط. التعليم، رغم توسعه، لم يُطوّر مناهجه بما يتناسب مع سوق العمل، فظل بعيدًا عن بناء اقتصاد معرفي قادر على مواجهة تقلبات أسعار النفط. ومع سقوط النظام في 2011، انهارت المنظومة التعليمية كقصر من رمال. الفوضى السياسية والاقتتال الداخلي دمّرا البنية التحتية للمدارس والجامعات، وانتشر الفساد الإداري كالنار في الهشيم. المليشيات المسلحة سيطرت على مناطق واسعة، فأغلقت المدارس أو حولتها إلى ساحات للعنف. ملايين الطلاب حُرموا من مقاعد الدراسة، وأصبح التعليم في كثير من المناطق مجرد ذكرى.
تقارير اليونسكو والبنك الدولي تؤكد أن عقدًا من النزاعات أدى إلى تدهور حاد في جودة التعليم، مع نقص المعلمين وتراجع معدلات الالتحاق، خاصة في المناطق الريفية. انخفض الإنفاق على التعليم بنسبة 40% من الناتج المحلي، فيما ارتفعت البطالة بين الشباب إلى أكثر من 50%، خصوصًا بين خريجي الجامعات الذين وجدوا أنفسهم يحملون شهادات لا قيمة لها في سوق عمل مشلول. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات باردة، بل جروح مفتوحة في جسد المجتمع. فهي تعني أطفالًا بلا مدارس، شبابًا بلا مهارات، وأسرًا بلا أمل. أبناء النخب السياسية والعسكرية يواصلون تعليمهم في جامعات أوروبية فاخرة، بينما يغرق أبناء عامة الشعب في مدارس متهالكة أو يغادرونها مبكرًا بحثًا عن لقمة العيش.
التعليم في ليبيا لم يعد مجرد قضية اجتماعية، بل أصبح معضلة اقتصادية. تقرير البنك الدولي لعام 2025 يشير إلى أن الاقتصاد الليبي انكمش بنسبة 0.6% بسبب انخفاض إنتاج النفط، لكن الناتج غير النفطي نما بنسبة 7.5%. هذه المفارقة تكشف أن القطاعات غير النفطية قادرة على النمو إذا دعمتها منظومة تعليمية قوية. لكن الواقع مختلف: المناهج قديمة، المهارات لا تتطابق مع احتياجات السوق، وهجرة العقول مستمرة. الشباب الموهوب يغادر بحثًا عن فرص أفضل، تاركًا الاقتصاد الليبي بلا موارد بشرية مؤهلة. تقرير دولي آخر يضيف أن النزاعات والتمييز الجنسي يحدان من وصول الفتيات إلى التعليم، مما يفاقم الفجوة ويضعف النمو طويل الأمد.
حان الوقت لإعادة النظر في الأولويات، ليصبح التعليم في ليبيا ليس الجانب المنسي، بل القلب النابض لمشروع وطني جديد
ولا يقتصر تأثير التعليم على الاقتصاد المباشر، بل يمتد إلى الاستقرار الاجتماعي. جيل الشباب، الذي يمثل أكثر من 60% من السكان، يعاني من صدمات نفسية بسبب النزاعات، مما يقلل من إنتاجيته ويزيد من احتمالات انجرافه نحو العنف أو الهجرة. التعليم الجيد يمكن أن يكون صمام أمان، يعيد الثقة، ويمنح الشباب بدائل عن السلاح واليأس. دراسة عن الإنفاق على التعليم بين 1985 و2015 تؤكد وجود علاقة إيجابية بين الإنفاق التعليمي والنمو الاقتصادي في ليبيا، لكن التراجع الحالي يعكس العكس تمامًا.
إعادة بناء التعليم في ليبيا ليست رفاهية، بل ضرورة إذا أردنا إنقاذ البلاد. هناك خطوات عاجلة يمكن أن تشكل بداية: إصلاح المناهج لتواكب العصر وتُركز على المهارات الرقمية والريادة والتفكير النقدي بدلًا من الحفظ والتلقين، مكافحة الفساد عبر قوانين صارمة تضمن الشفافية في تخصيص الميزانيات، تحسين أوضاع المعلمين برفع الرواتب وتقديم حوافز لجذب الكفاءات، التحول الرقمي من خلال توفير أجهزة لوحية أو حواسيب للطلاب خاصة في المناطق النائية، وإقامة شراكات دولية مع اليونسكو واليونيسف وبرامج مثل Education Cannot Wait (التعليم لا يستطيع الانتظار) لإعادة دمج ليبيا في المشهد التعليمي العالمي. كما أن ربط التعليم بسوق العمل يتطلب تطوير برامج تدريب مهني في الزراعة والصحة والطاقة المتجددة، بما يتناسب مع احتياجات الاقتصاد، إلى جانب إعادة تأهيل البنية التحتية التعليمية وترميم المدارس المتضررة وضمان بيئة تعليمية آمنة للأطفال.
التعليم في ليبيا الغارقة في أزماتها لم يعد مجرد حق إنساني، بل في صميم الحياة الاقتصادية والاجتماعية. من الكُتّاب البسيط إلى الجامعات الحديثة، ومن الأمل قبل 2011 إلى الانهيار بعده، يظل التعليم المرآة التي تعكس حال البلاد. اليوم، يقف جيل كامل أمام واقع مهشم: أحلام ضائعة، مهارات مفقودة، وفرص عمل تتبخر. لكن هذا الجيل ليس ضحية أبدية؛ هو بطل محتمل ينتظر الفرصة. إذا أعيد بناء التعليم كثورة حقيقية، يمكن أن يتحول الدمار إلى قصة انتصار، ويعود التعليم ليكون جسرًا نحو الحرية والكرامة. الدرس واضح: لا يمكن لليبيا أن تنهض باقتصاد نفطي هش وحده. التعليم هو السبيل إلى اقتصاد أقوى، مجتمع أكثر عدلًا، ومستقبل أكثر استقرارًا. حان الوقت لإعادة النظر في الأولويات، ليصبح التعليم في ليبيا ليس الجانب المنسي، بل القلب النابض لمشروع وطني جديد.