الأمم المتحدة في ليبيا: شاهد صامت على مأساة بلا نهاية
منذ أربعة عشر عاماً والليبيون يستيقظون على وعود البعثة الأممية بالدعم والاستقرار، لكنهم ينامون على وقع أصوات السلاح وتناحر الميليشيات. تأسست بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بقرار من مجلس الأمن عام 2011، وكان يفترض أن تكون أداة لمرافقة الانتقال الديمقراطي، لكنها تحولت في نظر كثيرين إلى جزء من المشكلة لا إلى مفتاح للحل. فبدلاً من أن تكون مظلة للحوار الوطني، أصبحت في المخيال الشعبي غطاءً للفشل، وواجهة دبلوماسية تبرر استمرار الانقسام ونهب الثروات.
تبدل القيادات المتكرر داخل البعثة كان أحد أبرز مظاهر هذا الفشل. فمنذ إيان مارتن مروراً ببرناردينو ليون وغسان سلامة وستيفاني ويليامز وعبد الله باتيلي وصولاً إلى هانا تيتيه في 2025، تعاقب أكثر من عشرة مبعوثين على رئاسة البعثة. كل واحد منهم يبدأ من الصفر، يعيد اللقاءات نفسها، يكرر الشعارات ذاتها، ويطلق وعوداً لا تجد طريقها إلى التنفيذ. هذا التبدل المستمر جعل البعثة بلا ذاكرة مؤسسية ولا رؤية إستراتيجية، وكأن الأزمة الليبية تُعاد برمجتها مع كل تغيير في القيادة. النتيجة أن سنوات من الجهود ضاعت، فيما بقيت البلاد أسيرة الانقسام بين طرابلس وبنغازي ومصراتة، وأسرى السلاح الذي يفرض منطقه على السياسة.
في كل مرة تشتعل فيها الاشتباكات، كما حدث في طرابلس في يونيو 2025، تكتفي البعثة ببيانات تعبر عن “القلق العميق” وتدعو إلى “التهدئة”. لكن هذه البيانات لم توقف رصاصة واحدة، ولم تحمِ مدنياً واحداً. بل إن بعض الميليشيات التي كانت طرفاً في العنف تحولت إلى شريك سياسي في ترتيبات السلطة، بدعم غير مباشر من صمت أممي يبرر الأمر باعتباره “واقعية سياسية”. وهكذا، بدل أن تكون البعثة أداة لتقليص نفوذ السلاح، أصبحت شاهداً على تمدده، بل ومسهماً في شرعنته.
في بلد غني بالنفط مثل ليبيا، كان يفترض أن تكون الثروة الوطنية رافعة للتنمية والاستقرار. لكن الواقع أن المواطن لا يجد كهرباء ولا دواء، بينما تُنهب المليارات عبر شبكات فساد. كل ذلك يجري تحت أنظار البعثة التي ترفع شعار “دعم الشفافية”، لكنها تغض الطرف عن تقارير الفساد المتكررة. صحيح أنها أعلنت أكثر من مرة دعمها لمكتب التدقيق الليبي وخطط مكافحة الفساد، لكن هذه الجهود بقيت بلا أثر ملموس، لأنها تفتقر إلى آليات تنفيذية حقيقية. وهكذا، بدلاً من أن تكون البعثة رقيباً على المال العام، أصبحت مظلة سياسية لاستمرار منظومة النهب.
تبدل القيادات المتكرر داخل بعثة الأمم المتحدة جعلها بلا ذاكرة مؤسسية ولا رؤية إستراتيجية فتحولت من أداة دعم إلى عبء سياسي يطيل الأزمة ويعيد ليبيا إلى نقطة البداية
مع تراكم هذه الإخفاقات، لم يعد الليبيون يرون في البعثة هيئة دولية نزيهة، بل جزءاً من المنظومة التي أطالت عمر الأزمة. هذا الشعور لم يأتِ من فراغ، بل من سنوات من الوعود غير المنجزة، ومن صمتها أمام استغلال المال العام وتحكم قوى السلاح في القرار الوطني. في الشارع الليبي، تتردد الأحاديث عن تشابك مصالح مالية وسياسية بين بعض القوى المتنفذة في الداخل وأطراف داخل البعثة. ويشيع أن المال المنهوب أصبح وسيلة لشراء النفوذ والسكوت، وأن بعض الدوائر الدولية تغض الطرف عن تجاوزات واضحة مقابل الحفاظ على ما تسميه “التوازن”. هذه الشبهات، حتى وإن لم تثبت رسمياً، عمقت أزمة الثقة ورسخت الانطباع بأن البعثة لم تعد تراقب الانحراف، بل أصبحت جزءاً من شبكة المصالح التي تطيل عمر الأزمة.
الأدهى أن البعثة تفتقر إلى الجرأة في مواجهة التحديات. عند كل اشتباك أو انتهاك، يخرج المبعوث الأممي بعبارات دبلوماسية باردة تدعو إلى “ضبط النفس”. لكن الليبيين لم يعودوا بحاجة إلى بيانات قلق، بل إلى مواقف حاسمة وآليات محاسبة واضحة وضغط فعلي على الأطراف المعرقلة. ويتعرض الصحفيون الذين يحاولون كشف الفساد والانتهاكات لمضايقات وتهديدات، بينما تكتفي البعثة بالصمت. بهذا الشكل، تتحول من أداة لتصحيح المسار إلى غطاء أممي للفوضى.
إذا أرادت الأمم المتحدة استعادة مصداقيتها، فعليها أن تبدأ بإصلاح بيتها من الداخل. المطلوب أولاً استقرار القيادة، عبر تعيين مبعوث ثابت بخطة واضحة لا تتغير مع تغير الأشخاص. المطلوب أيضاً إعلان موقف صريح من الميليشيات التي تفرض إرادتها بالسلاح، وفرض شفافية حقيقية في إدارة الموارد الليبية مع مراقبة أوجه صرفها. كما يجب إنهاء العلاقات الرمادية مع الأطراف السياسية الفاسدة التي تتغذى على استمرار الانقسام. الخارطة السياسية الجديدة التي أعلنت في آب – أغسطس 2025 قد تكون فرصة لوضع جدول زمني واقعي لإنهاء المرحلة الانتقالية، لكن نجاحها يتوقف على جدية البعثة في مواجهة القوى التي تعرقل الحلول.
الخلاصة أن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا تحولت من أداة دعم إلى عبء سياسي. تبدل القيادات، الصمت على الفساد، وازدواجية المواقف جعلتها في نظر المواطن شريكاً غير معلن لمن نهبوا البلاد وأفقروا شعبها. الليبيون لا يحتاجون إلى بيانات جديدة ولا إلى مبعوث آخر يبدأ من الصفر، بل إلى إرادة دولية حقيقية تضع حداً للفوضى، وتفتح الطريق أمام انتخابات شفافة وحكومة موحدة. عندها فقط يمكن أن تستعيد البعثة شيئاً من ثقة فقدتها، وأن تتحول من عبء إلى أداة إنقاذ.