"البندقية العارية" يُحيي العبث ويُكرر السخرية كمحاولة تجارية لافتة
في ظل موجة إعادة إنتاج الأعمال الكلاسيكية في هوليوود، يطل علينا فيلم “البندقية العارية” بنسخته جديدة تحيي روح النسخة الأصلية التي اشتهرت في ثمانينات القرن الماضي، إلا أنها نسخة لا تضاهي نجاح النسخ السابقة، وإنما تنجرف نحو الكوميديا المفرطة والإثارة البوليسية دون سيناريو متماسك، في محاولة لتحقيق نجاح تجاري.
تعود سلسلة “البندقية العارية” إلى الواجهة السينمائية من جديد عبر نسخة حديثة تحمل ملامح الماضي وتستدعي عناصره الهزلية، في محاولة لإحياء روح سينمائية ضاحكة تأسست في الثمانينات على يد الثلاثي ديفيد زوكر وجيم أبراهامز وجيري زوكر، عندما يقدم العمل شخصية فرانك دريبين الابن، الذي يخوض مغامرة بوليسية عبثية تحاكي مغامرات والده الراحل، ضمن حبكة تنسج نفسها من مفارقات لفظية ومواقف بصريّة تُراكم الضحك وتُهمّش العقل.
يطرح السيناريو حبكة بسيطة تتعلق بموت غامض لعالم في شركة تكنولوجية كبرى، يُفتح بها بابٌ لمؤامرة تأخذ البطل إلى سلسلة من المغامرات الساذجة والمعقّدة، إذ يُجسّد ليام نيسون دور دريبين الابن، في مفارقة تامة بين شكله الهزلي ومنطقه الناضج، وتُرافقه باميلا أندرسون في دور نمطي لامرأة غامضة، إلى جانب ممثلة تؤدي دور رئيسة الشرطة، في توليفة تمثيلية تبدو موجهة أكثر إلى استثمار شهرة الأسماء لا إلى خدمة البناء الدرامي كما العادة.
ويحافظ إيقاع الفيلم على البنية التقليدية التي اشتهرت بها السلسلة: تمهيد قصير، حادث محفّز، ثم سلسلة من المطاردات والمواقف الهزلية التي تعمد إلى تحطيم الجديّة والانزلاق في سخريات جسدية وكلامية، كقالب يسمح بتمرير النكات المتلاحقة دون الحاجة إلى روابط منطقية أو تصعيد درامي منضبط.
ويركّز السيناريو على بناء عالم كاريكاتوري، حيث كل شيء مبالغ فيه: الحركات، ردود الأفعال، الحوارات، وحتى التحولات العاطفية، ويتعمّد الفيلم أن يكون عبثيًّا، فيجعل من تناقض عمر البطل الممثل وعمره في القصة نكتة قائمة بذاتها، ويتغاضى عن تناسق الزمن والمنطق، كما لو أنه يطلب من المشاهد أن يُعلّق قناعته منذ البداية، وينخرط في عرض لا يهدف سوى إلى الضحك المجرد.
ويُعيد الفيلم استخدام تقنيات الهزل المعهودة: التورية، اللعب بالألفاظ، السخرية من القوالب، وكسر الجدار الرابع، لكنّه، في الكثير من الأحيان، يُفرط في التكرار ويُعيد نكاتًا سبق أن قُدّمت في الأجزاء السابقة، وهذا يفقدها بريقها ويجعل وقعها باهتًا، إذ تُضحك بعض المشاهد بالفعل، خاصة حين تسخر من التكنولوجيا الحديثة أو من آليات الشرطة المتكلسة، لكنّ كثيرًا منها لا يتجاوز حد الاجترار.
ويعاني بناء الشخصيات من سطحية واضحة فلا فرانك الابن يمتلك فرادة والده، ولا الشخصيات الثانوية تتجاوز أدوارها الوظيفية، خاصة عندما يُقدَّم الابن كنسخة معدّلة من الأب، لكنه يخلو من العفوية التي جعلت الأخير محببًا، وتبقى شخصية باميلا أندرسون محصورة في إطار الجاذبية المفتعلة، بلا تطور درامي، بينما تبدو رئيسة الشرطة مجرّد ضابط تهكمي لا تحمل شخصيته أيّ تعقيد داخلي.
ويُفعّل تكوين اللقطات لغة بصرية تقليدية في هذا النوع من الكوميديا، حينما تعتمد الكاميرا على المبالغة في زوايا التصوير والقطع السريع، لتخدم الإيقاع الساخر للمواقف. ويُسخّر الشكل الكلاسيكي لمشهد المطاردة والسقوط والانفجار المفتعل، باعتبارها مفاتيح للضحك البصري، بينما تكرار هذه الأدوات يبرز محدودية في الخيال الإخراجي، خصوصًا حين تقترن بمواقف سبق أن استُهلكت في السينما الساخرة، وتؤكد متتاليات المشاهد تمسّك الفيلم بثيمة مركزية هي العبث المنظم أو السخرية من كل ما هو عقلاني، كعرض للتهريج المحض، إلا أن هذه الفلسفة الكوميدية، إذا لم تُدعَم بتجديد في الأسلوب أو المفاجأة، سرعان ما تفقد زخمها وتتحوّل إلى استنساخ باهت.
ويُخفق الفيلم في مخاطبة جمهور جديد لا يعرف الأجزاء السابقة، ويعتمد بشكل شبه كامل على النوستالجيا، فالمشاهد المطلع على السلسلة الأصلية سيبتسم لمجرد استعادة تلك الأجواء، بينما سيجد المشاهد الجديد صعوبة في فهم سر الضحك أو سياق المفارقة، وهذا الانقسام في التلقي يضع الفيلم في منطقة ضيقة من التفاعل الجماهيري.
وتجاريا تتابع بعض مشاهد هذه السلسلة رغم التكرار والاجترار تحطيم الجدار بين الجدية والكوميديا العبثية، في مشاهد تُضمر نقدًا ثقافيًا ساخرًا وإن جاء مموّهًا تحت ستار الفوضى، فحين يسخر من السيارات ذاتية القيادة أو من الهوس بالقهوة، فهو يُبرز هشاشة علاقتنا المعاصرة بالتقنية والاعتمادية المفرطة على أدوات لا نفهمها بالكامل، فيظل الفيلم وإن بدا كوميديا واعيًا بموقعه داخل العصر الرقمي، فيُطلق نكاته من صميم المفارقات اليومية المعاشة.

ونجح المخرج أكيفا شافير في توظيف الإيقاع البصري لخدمة الفوضى المقصودة حتى وهي مكررة، معتمدًا على القطع السريع والارتجال الحركي لتعزيز مفاجأة المشهد الكوميدي فرغم أن بعض اللقطات بدت مفتعلة أو مطوّلة أكثر من اللازم، إلا أن هناك توازنا مقبولا بين الهزل والفكرة، خاصة في المشاهد التي تبتعد عن الاستعراض المباشر وتقترب من الكوميديا الظرفية.
ويحاول هذا العمل أن يُكرّس روحًا من الوفاء الهزلي لتراث ليزلي نيلسن، دون أن يسقط تمامًا في فخ التقليد، فليام نيسون يعيد تأويل شخصية فرانك دريبين على طريقته: بصوت أجش، وحضور ثقيل الظل، وجسد يبدو دائمًا في غير مكانه، وكأنه يعاني من تناقض بين ملامحه الجادة ومواقفه السخيفة، وهذا التوتر بين الشكل والمضمون هو ما يجعل أداءه ينجح في انتزاع الضحك، لا رغم عبثيته بل بسببها.
ويتسلل الحنين إلى أجزاء الفيلم القديمة، حينما تُصاغ بعض النكات بذكاء يسمح لها بأن تكون مفهومة بذاتها، وفي الوقت نفسه، تهمس للمشاهد المتمرّس في ثقافة السلسلة الأصلية، وهذا توازن دقيق بين الداخل والخارج: بين الجمهور القديم الذي يضحك على التلميح، والجمهور الجديد الذي يضحك على الموقف نفسه دون معرفة بالسياق.
بناء الشخصيات يعاني من السطحية فلا فرانك الابن يمتلك فرادة والده، ولا الشخصيات الثانوية تتجاوز أدوارها الوظيفية
ويفتقد الفيلم في مجمله إلى بعض الجرأة في كسر الأطر السردية التقليدية، كما فعلت الأجزاء الأولى، ففي حين كانت “البندقية العارية” في الماضي تعيد تعريف الشكل البوليسي عبر تقويضه، تبدو النسخة الجديدة أحيانا كما لو أنها تعيد رسم القالب فقط دون أن تهدمه أو تعيد تركيبه بطريقة مختلفة، ويتبين هذا في الحبكة الرئيسية التي تكتفي بالخدمة دون إثارة أو تشويق فعلي.
ويتجلّى ضعف آخر في تعامل الفيلم مع بعض الشخصيات الجانبية التي كان يمكن أن تفتح آفاقًا كوميدية أوسع، وعلى رأسها شخصية نوردبرغ الابن، فالاكتفاء بتلميحٍ ساخر تجاه شخصية والد نوردبرغ في الأجزاء القديمة، رغم ذكائه، يُفقد الشخصية الجديدة فرصةً للانخراط في الجنون العام ويُحولها إلى ظل بلا تأثير، وهو ما يبدو كقرار إنتاجي لا فني، خاضع لحسابات الجدل، بينما يُجسّد الممثل موسى جونز قدرة على المزج بين التهكّم والبراءة، وكان بالإمكان تطوير خطه الدرامي ليبرز مفارقات فرانك أو يواجهها بنموذج العقل المعاكس، لكن اختصاره في مشهد دعائي فقط هو خسارة درامية فعلية، وتفويت لفرصة نادرة لجيل جديد من الشخصيات الكاريكاتورية.
وتعتمد الكثير من المشاهد على قدرة المشاهد على التماهي مع الهزل، لا على منطق حبكة الفيلم، وهذا ما يجعله عرضة للتفاوت في التلقي؛ فالمُتفرج المتصالح مع العبث سيجد في كل مشهد مادة للضحك، أما الذي ينتظر ترابطًا داخليًا أو بناءً منطقيًّا، فسيُصاب بالإرباك أو حتى النفور، وهذا خيار فني مقصود، لكنه لا يعفي الفيلم من مسؤولية المزج بين الهزل والمعنى، كما نجحت في ذلك بعض المشاهد بالفعل، بينما يُختتم الفيلم بمشهد ختامي يحمل ملامح خجولة من الاستعارة، إذ تظهر الشخصيات وقد تجاوزت الفوضى، لكن دون أن تنضج بالمعنى الحقيقي، وهذا ما يُبقي الكوميديا قائمة: شخصيات لا تتغير، بل تتكرّر في عبثها، كأنما الزمن يُعيدها دائمًا إلى نقطة الصفر.
ويحاول فيلم “البندقية العارية” أن يبرز في محصلته النهائية، أن السخرية لا تموت لكنها تتطلب مهارة في التوقيت، وذكاء في التناول، وشجاعة في الهدم، علما أن الفيلم لا يُضيف الكثير إلى الإرث الكوميدي للثلاثية الأصلية، لكنه لا يُسيء إليها أيضًا، وإنما يُقدّم نسخة آمنة نسبيًّا، تُضحك، تُربك، وربما تُنسى سريعًا، لكنها في لحظاتها الناجحة تُذكّرنا أن الضحك، حتى حين يكون سخيفًا، يمكن أن يبقى فنًا له منطقه الخاص.