الإعلام الليبي: التحول الرقمي وفرص استعادة الثقة
يشهد الإعلام الليبي اليوم مرحلة حرجة تتجاوز كونه وسيلة لنقل الأخبار أو تسجيل الوقائع، ليصبح ساحة تحكم بالوعي الجماعي ومختبرًا لمستقبل الصحافة في المنطقة. فمنذ نشأته الرسمية في ستينيات القرن الماضي، مرورًا بتجربة التلفزيون الليبي الأولى، وصولًا إلى تأسيس صحيفة العرب في لندن كمنبر وطني في المنفى، ظل الإعلام مرآة للتحولات السياسية والاجتماعية. غير أن التحديات الراهنة تختلف جذريًا عن الماضي، إذ لم يعد الصراع على المعلومة محصورًا بين الصحافة الرسمية والمعارضة، بل أصبح بين الإعلام التقليدي ومنصات رقمية عابرة للحدود، مدعومة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي وسرعة التواصل على شبكات التواصل الاجتماعي.
التحول يفرض على صناع القرار إعادة التفكير في الإعلام كأداة إستراتيجية لتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، خاصة في بيئة ما بعد النزاع حيث يرتبط نجاح إعادة بناء الدولة بقدرة الإعلام على استعادة الثقة العامة عبر سرديات موثوقة وشفافة. الإعلام التقليدي الليبي، المتمثل في الصحافة الورقية والإذاعة والتلفزيون، يعاني اليوم أزمة مزدوجة: ضعف القدرة على تقديم صورة دقيقة وشاملة عن الواقع الوطني، وعجز عن منافسة المنصات الرقمية التي تقدم محتوى لحظيًا وتفاعليًا. خلال العقود الماضية، كان الإعلام أداة دعائية في ظل النظام السابق، ومع اندلاع ثورة 2011 شهد انفجارًا في عدد الوسائل، لكنه سرعان ما انحدر إلى الانقسام السياسي والإقليمي.
مستقبل الإعلام الليبي لن يُبنى على الشعارات بل على قرارات تستثمر في التكنولوجيا والإنسان من خلال رؤية وطنية تعتبر التحول الرقمي ضرورة إستراتيجية وتضع الإعلام في قلب مشروع إعادة بناء الدولة
تقارير دولية حديثة، مثل تقرير مراسلون بلا حدود لعام 2025، تضع ليبيا في المرتبة 137 من أصل 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة، مشيرة إلى تحسن طفيف عن العام السابق (143)، لكنها تؤكد استمرار الاعتقالات والترهيب ضد الصحفيين، مما يعيق القدرة على تغطية مستقلة وموضوعية. ورغم أن معدل اختراق الإنترنت بلغ 88.5% عام 2023 مع توقعات بتجاوزه 90% في 2025، فإن الإعلام التقليدي ما زال يعتمد على نماذج قديمة تركز على الأخبار العاجلة والأحداث الدموية، ما يرسخ صورة سلبية عن البلاد ويغذي شعورًا باليأس لدى الداخل، خاصة مع وجود 6.4 مليون مستخدم إنترنت يفضلون المحتوى الرقمي السريع على الوسائل التقليدية.
في المقابل، يفتح التحول الرقمي نافذة لإعادة بناء الثقة. فقد بدأت بعض المنصات الليبية في تبني استراتيجيات رقمية متقدمة، عبر إنتاج فيديوهات تفاعلية على يوتيوب وانستغرام، أو النشر بالإنجليزية للوصول إلى جمهور دولي. هذه التجارب، وإن كانت محدودة، تشير إلى إمكانيات كبيرة إذا ما جرى الاستثمار في أدوات تحليل البيانات وإنتاج قصص متعددة الوسائط تضع المواطن في قلب الحدث. كما أن إدماج تقنيات مثل الواقع المعزز والذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة لتوثيق الأحداث التاريخية ومناقشة قضايا الشباب الذين يشكلون أكثر من نصف السكان ويعتمدون بنسبة 60% على وسائل التواصل للحصول على الأخبار.
الذكاء الاصطناعي يمثل بدوره ثورة في صناعة الإعلام، لكنه سلاح ذو حدين يتطلب حذرًا من صناع القرار لضمان استخدامه في خدمة المصلحة العامة. يمكن لهذه التقنيات أن تساعد في تحليل اتجاهات الرأي العام، والكشف عن الأخبار المضللة، وإنتاج محتوى متعدد اللغات يخاطب الداخل والخارج في آن واحد. مبادرات مثل برنامج “بصيرة” الذي أطلقته بعثة الأمم المتحدة في ليبيا عام 2025، ودرب 50 إعلاميًا على أدوات الذكاء الاصطناعي للتحقق من الحقائق، تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح. كما أن الإعلان عن إطلاق نظام “LIBIGPT” الليبي، الداعم للعربية والإنجليزية، يعكس إدراكًا متزايدًا لأهمية تطوير حلول محلية. غير أن المخاطر قائمة، إذ يمكن أن تتحول هذه الأدوات إلى وسيلة للتضليل عبر الأخبار المفبركة أو المقاطع المزيفة، كما حدث في حملات التضليل خلال مارس 2025، ما يستدعي تشريعات وطنية وتدريبًا متخصصًا للصحفيين على الاستخدام المسؤول.
الذكاء الاصطناعي يمثل بدوره ثورة في صناعة الإعلام، لكنه سلاح ذو حدين يتطلب حذرًا من صناع القرار لضمان استخدامه في خدمة المصلحة العامة
وسائل التواصل الاجتماعي تمثل اليوم الساحة الأكثر تأثيرًا في ليبيا، حيث يسيطر فيسبوك على 74.86% من الاستخدام بين 2024 و2025، يليه إنستغرام بنسبة 13.87% ويوتيوب 6.71%. ومع وجود 6.4 مليون مستخدم نشط، أصبحت هذه المنصات أداة رئيسية للتعبئة السياسية والاقتصادية، لكنها أيضًا مصدرًا للفوضى المعلوماتية، إذ يواجه 96% من المستخدمين محتوى مضللًا يوميًا وفق تقارير مثل BBC Media Action. غياب إستراتيجية وطنية لإدارة هذه المنصات جعلها أحيانًا أداة لتأجيج الانقسامات بدلًا من ردمها.
التحديات لا تقتصر على المحتوى، بل تشمل البنية التحتية الرقمية الضعيفة، خاصة في المناطق النائية حيث دمرت النزاعات السابقة ما يقارب مليار دولار من استثمارات الاتصالات. كما أن نقص الكفاءات الفنية في إنتاج المحتوى الرقمي المتطور، والرقابة الذاتية الناتجة عن الضغوط السياسية، يعيقان التطوير. هذه التحديات تجعل التحول الرقمي معركة سياسية وثقافية بقدر ما هو خيار تقني، حيث يضع الاعتماد المفرط على المنصات الأجنبية الإعلام الوطني تحت رحمة الرقابة الخارجية.
مستقبل الإعلام الليبي لن يُبنى على الشعارات والنوايا الحسنة، بل على قرارات عملية تستثمر في التكنولوجيا والإنسان معًا. المطلوب رؤية وطنية تعتبر التحول الرقمي ضرورة إستراتيجية، وتضع الإعلام في قلب مشروع إعادة بناء الدولة. فالإعلام ليس مجرد ناقل للخبر، بل أداة لإعادة صياغة صورة ليبيا داخليًا وخارجيًا، وضمان أن تكون جزءًا من الحل لا مجرد موضوع للنزاع. في ظل اقتصاد هش يعتمد على الاستقرار الإعلامي لجذب الاستثمارات وتعزيز السياحة، يصبح تطوير إعلام حديث وشفاف شرطًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة.