اعتراف بريطاني مشروط بالدولة الفلسطينية: تطور طبيعي أم مراجعة متأخرة؟

قد لا يكفي الاعتراف لتكفير خطايا الماضي لكنه يظل خطوة ضرورية في رحلة طويلة نحو مستقبل أكثر عدلًا. التاريخ لا يرحم من يتأخر كثيرًا لكنه يمنح فرصة ثانية لمن يجرؤ على الاعتراف بخطئه.
الأحد 2025/09/21
اعتراف لا يمحو الماضي، لكنه يفتح نافذة للمستقبل

بعد مرور خمسة وسبعين عامًا على اعترافها المبكر بدولة إسرائيل، تعلن الحكومة البريطانية اليوم اعترافها بالدولة الفلسطينية. خطوة تحمل في طياتها رمزية ثقيلة، إذ تعيد فتح جرح قديم ارتبط باسم بريطانيا منذ وعد بلفور عام 1917، وما تلاه من دور محوري في تمهيد الطريق لقيام إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. السؤال الذي يفرض نفسه: هل يكفي هذا الاعتراف لتصحيح خطأ تاريخي، أم أنه مجرد تطور طبيعي تأخر كثيرًا، وربما محاولة متأخرة للمساهمة في إخراج المنطقة من صراع أنهك الجميع؟

منذ البداية، ارتبطت بريطانيا بالقضية الفلسطينية ارتباطًا ملتبسًا. فهي القوة الاستعمارية التي منحت وعد بلفور، ثم أدارت الانتداب على فلسطين بطريقة ساهمت في تمكين المشروع الصهيوني. وعندما انسحبت عام 1948 تركت وراءها أرضًا ممزقة وصراعًا مفتوحًا. اعترافها المبكر بإسرائيل كان بمثابة تثبيت لواقع جديد، بينما ظل الفلسطينيون بلا دولة، وبلا اعتراف دولي بحقوقهم الأساسية.

اليوم، حين تعلن بريطانيا اعترافها بفلسطين، فإنها لا تفعل ذلك في فراغ، بل في ظل ذاكرة تاريخية مثقلة بالمسؤولية. الاعتراف يبدو وكأنه محاولة لإعادة التوازن إلى سجل غير متوازن، لكنه أيضًا يطرح سؤالًا عن جدوى الاعتراف المتأخر: هل يمكن لقرار سياسي اليوم أن يمحو عقودًا من التواطؤ أو الصمت؟

لكن الاعتراف البريطاني ليس مطلقًا، بل جاء مشروطًا بعدد من المحددات السياسية والقانونية. فهو يرتبط أولًا بضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية ثمرة مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا إعلانًا أحاديًا. كما يشترط أن تقوم الدولة على أساس حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية، مع ضمانات أمنية لإسرائيل. إضافة إلى ذلك يُربط الاعتراف بقدرة السلطة الفلسطينية على بناء مؤسسات “قابلة للحياة” وضبط الأمن الداخلي، بما يضمن -من وجهة النظر البريطانية- أن الدولة الوليدة لن تتحول إلى مصدر تهديد إقليمي.

◄ بعد 75 عامًا من اعترافها بإسرائيل، تعترف بريطانيا بفلسطين. بين الاعترافين مسافة تاريخية مليئة بالدماء والخذلان والخيبات. لكن بينهما أيضًا فرصة: أن يتحول الاعتراف الجديد إلى بداية مسار مختلف

من بين هذه الشروط يبرز ملف حماس. فبريطانيا، شأنها شأن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تصنّف الحركة منظمةً إرهابية، وبالتالي لا ترى أن حكومة فلسطينية تهيمن عليها الحركة يمكن أن تكون شريكًا مقبولًا للاعتراف الكامل. لهذا جاء الاعتراف مشروطًا بأن تكون الدولة الفلسطينية تحت سلطة سياسية موحدة، قادرة على ضبط الأمن الداخلي، وملتزمة بمسار سياسي سلمي يعترف بإسرائيل وينبذ العنف. هذه الشروط تجعل من الصعب إدماج حماس في أي صيغة للدولة المعترف بها ما لم تغيّر مواقفها الأساسية، وهو ما يضعها أمام معضلة إستراتيجية: إما القبول بقواعد الشرعية الدولية، أو البقاء خارج إطار الدولة التي يسعى الفلسطينيون إلى تثبيتها على الساحة العالمية.

من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى الاعتراف البريطاني كجزء من تطور طبيعي في الموقف الدولي. فأغلب دول العالم، بما فيها غالبية أعضاء الأمم المتحدة، اعترفت منذ سنوات طويلة بالدولة الفلسطينية. بريطانيا، التي لطالما تباهت بدورها كقوة دبلوماسية عالمية، بدت متأخرة عن الركب. الاعتراف إذن ليس قفزة جذرية بقدر ما هو لحاق بالتيار الدولي، وربما محاولة لاستعادة بعض المصداقية الأخلاقية والسياسية.

لكن في السياسة، حتى الخطوات المتأخرة قد تحمل قيمة. الاعتراف البريطاني، بحكم رمزيته التاريخية وثقل لندن الدبلوماسي، قد يشكل ضغطًا إضافيًا على دول أوروبية أخرى مترددة، ويفتح الباب أمام إعادة صياغة الموقف الغربي من الصراع.

الاعتراف البريطاني بالدولة الفلسطينية لا يمحو الماضي، لكنه يفتح نافذة للمستقبل. هو ليس كافيًا لتصحيح خطأ تاريخي، لكنه خطوة في الاتجاه الصحيح. وهو ليس ضمانة لإنهاء الصراع، لكنه إشارة إلى أن العالم بدأ يدرك أن استمرار الوضع الراهن لم يعد مقبولًا.

في النهاية، يبقى السلام الحقيقي مرهونًا بإرادة سياسية تتجاوز الاعترافات الرمزية إلى خطوات عملية: وقف الاستيطان، إنهاء الاحتلال، ضمان حقوق الفلسطينيين، وإيجاد صيغة تعايش عادل. الاعتراف البريطاني قد يكون بداية، لكنه لن يكون النهاية.

بعد 75 عامًا من اعترافها بإسرائيل، تعترف بريطانيا بفلسطين. بين الاعترافين مسافة تاريخية مليئة بالدماء والخذلان والخيبات. لكن بينهما أيضًا فرصة: أن يتحول الاعتراف الجديد إلى بداية مسار مختلف، مسار يعترف بأن العدالة لا تتجزأ، وأن السلام لا يُبنى على إنكار حقوق شعب كامل.