إلى السيد ترامب: القوة تصنع هدنة، لكنها لا تصنع سلامًا
“السلام عبر القوة”.. عبارة رددها ترامب أكثر من مرة وهو يعلن الاتفاقية الأخيرة، لكنها لم تغادر ذهني وأنا أتابع أولى شاحنات المساعدات تدخل غزة. كان المشهد محمّلاً بالتناقضات: دخان يتصاعد من بين الأنقاض، أطفال شاحبو الوجوه يتطلعون إلى الخبز قبل أن يتطلعوا إلى السلام، امرأة تصرخ وقد فقدت كل شيء، بينما تُوقّع الوثائق في قاعات مكيفة بشرم الشيخ. بدا وكأن العالم يعيش مشهدين متوازيين لا يلتقيان: مشهد الدم والركام، ومشهد البروتوكولات والابتسامات الدبلوماسية.
في العاشر من أكتوبر 2025، وبعد سنتين من الدمار الذي ذاق فيه الفلسطينيون مرّ الموت، أعلنت الحكومة الإسرائيلية موافقتها على ما سُمّي “المرحلة الأولى” من خطة ترامب للسلام. الاتفاقية التي أُحيطت بكل البهرجة الإعلامية بدت وكأنها نهاية فصل طويل من المأساة، لكنها في حقيقتها ليست سوى فاصل درامي، أشبه بمسكن يخفف الألم دون أن يعالج المرض. أتذكر مشهدا لصباح بارد في غزة، حين بدا وكأن نفقاً مظلماً قد انفتح فجأة في نهاية النفق. الناس يتجولون بين الركام، بعضهم يبحث عن أثرٍ لحياةٍ مضت، والبعض الآخر يبحث عن لقمة عيش في عالمٍ لم يعد يعترف إلا بالأقوياء. كان المشهد أقرب إلى لوحة سريالية عنوانها: “السلام يولد من رحم الحرب”، أو اذا استخدمنا مفردات الرئيس الأميركي ترامب: “السلام يولد عبر القوة”.
◄ إسرائيل بدعم أميركي نجحت في تحويل القضية الفلسطينية من مشروع تحرر وطني إلى مجرد “ملف أمني إقليمي”. غزة التي كانت رمزاً للمقاومة والصمود تحولت فجأةً إلى مشكلة إدارية
ولكن، دعونا نفكر قليلا: هل حقا السلام سيولد عبر الحرب واستخدام القوة؟
تفاصيل الاتفاقية بدت للوهلة الأولى واضحة: إطلاق جميع الرهائن – أحياءً وأمواتاً – مقابل أكثر من ألفي أسير فلسطيني، وقف إطلاق النار، انسحاب جزئي إسرائيلي، ودخول ما بين 400 و600 شاحنة مساعدات يومياً. لكن الوضوح هنا خادع، فالشيطان يكمن في التفاصيل. الانسحاب الجزئي يعني أن إسرائيل ستحتفظ بالسيطرة على 53% من أراضي غزة، وأن 200 جندي أميركي سيراقبون التنفيذ من خارج القطاع. هذه الأرقام ليست مجرد أرقام، بل هي هندسة جديدة للسيطرة، حيث تتحول أرض غزة من وطن إلى رقعة شطرنج تُدار من بعيد.
الأخطر من ذلك أن إسرائيل، بدعم أميركي، نجحت في تحويل القضية الفلسطينية من مشروع تحرر وطني إلى مجرد “ملف أمني إقليمي”. غزة التي كانت رمزاً للمقاومة والصمود، تحولت فجأةً إلى مشكلة إدارية تُدار من خلال “مجلس السلام” برئاسة ترامب ومشاركة توني بلير. لم يعد الحديث عن احتلال وحقوق وطنية، بل عن “إدارة أزمة” و”تدفقات مساعدات” و”تهديدات أمنية”. الفلسطينيون لم يعودوا شعباً له حقوق، بل مجرد مشكلة لوجستية تحتاج إلى إدارة. هذا التحول ليس تفصيلاً عابراً، بل هو إعادة تعريف للصراع نفسه، وإعادة صياغة للغة التي يتحدث بها العالم عن فلسطين.
الدول المجاورة تعاملت مع الاتفاقية بحذر يخفي خوفاً عميقاً. مصر، التي استضافت المفاوضات، تدرك أن دورها كوسيط يعزز مكانتها، لكنها تخشى أن يتحول حدها الشرقي إلى مصدر دائم للقلاقل. الأردن يرى في الاتفاقية ناقوس خطر، إذ قد تدفع العمليات في الضفة الغربية بموجة جديدة من اللاجئين نحو حدوده. أما قطر وتركيا، فهما تسعيان لتعزيز نفوذهما عبر رعاية إعادة الإعمار، لكن بثمن: القبول بتحويل القضية من قضية مبدئية إلى ورقة في لعبة القوى الكبرى. الجميع يرقص على الإيقاع الأمريكي، لكن كل طرف يخشى أن ينكسر الإيقاع فجأة.
الأرقام الاقتصادية تكشف الفجوة الأخلاقية. اقتصاد إسرائيل البالغ 580 مليار دولار أصيب بتشققات لكنه لم ينهَر. أما غزة، فقد شهدت انهياراً شبه كامل: انخفاض التوظيف بنسبة 61%، دمار شامل للبنية التحتية، وقطاع صحي يترنح. هل تكفي 600 شاحنة مساعدات لإعادة الحياة إلى مدينة محاصرة؟ هل يمكن للخبز والدواء أن يعوضا عن سنوات من الاحتلال والحصار؟ الأرقام هنا ليست محايدة، إنها تحمل في طياتها مأساة إنسانية لا يمكن اختزالها في جداول وتقارير.
الاتفاقية تعاملت مع المآسي كأرقام في جدول تفاوضي. الأجساد تحولت إلى عملة، والمشاعر الإنسانية إلى ورقة ضغط. في لحظة ما، بدا وكأن إنسانية البشر قد ذابت في لغة البند والشرط والفقرة.
◄ الاتفاقية التي أُحيطت بكل البهرجة الإعلامية بدت وكأنها نهاية فصل طويل من المأساة، لكنها في حقيقتها ليست سوى فاصل درامي، أشبه بمسكن يخفف الألم دون أن يعالج المرض.
المرحلة الثانية من الخطة تنص على نزع سلاح حماس، وهو البند الذي ترفضه الحركة بشكل قاطع. هنا تكمن القنبلة الموقوتة. حماس ترى في السلاح ضمانة للبقاء، وإسرائيل ترى في نزعه شرطاً للسلام. هذا التناقض الجوهري يذكرنا بأن ما يحدث ليس سلاماً حقيقياً، بل مجرد هدنة مؤقتة. السلام الحقيقي لا يُفرض من الخارج، ولا يُصمم في عواصم بعيدة، بل ينبع من الاعتراف المتبادل بالحقوق والكرامة. كل ما عدا ذلك يبقى مجرد إدارة للأزمة، لا حل لها.
الاتفاقية قد توقف الدمار مؤقتاً، لكنها لا تحقق السلام. إنها أشبه بضمادة على جرح غائر لم يُنظف بعد. الشعب الفلسطيني، الذي دفع ثمن الحرب الباهظ – أكثر من 67 ألف شهيد ودمار شامل – يستحق أكثر من مجرد “صفقة معيشية”. يستحق الحرية والكرامة ووطنًا يعيش فيه بسلام. أما نحن، كمشاهدين لهذه الدراما، فعلينا أن نتذكر أن السلام الحقيقي لا يُبنى على أنقاض المدن ولا على جماجم الضحايا. السلام يُبنى على العدالة والمساواة والاعتراف بالإنسان ككائن يستحق حياة حرة كريمة.
غزة اليوم تتنفس صدى الأمل. شاحنات المساعدات تدخل، الأطفال يركضون خلفها، والناس يتطلعون إلى غدٍ أقل قسوة. لكن بدون حل عادل وشامل، يبقى هذا الأمل كالسراب، يخفي وراءه واقعاً مريراً من الاحتلال والمعاناة. السؤال الذي يظل عالقاً: إلى متى سيظل العالم يعامل قضية الشعب الفلسطيني كمجرد “مشكلة” تحتاج إلى “إدارة”، بدلاً من أن يراها كقضية عدالة تحتاج إلى حل جذري؟