حل الدولتين يلقى زخمًا استثنائيًا بقيادة سعودية - فرنسية
بعض الأطراف تواطأ في شنّ حرب “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023 ظنّا منه أن ذلك سيعرقل إقامة الدولة الفلسطينية ويتيح فرصة لتصفية القضية بدعم أميركي. واستفادت إسرائيل من الاصطفاف الدولي الذي منحها حقّ الدفاع عن النفس، لكنّ غرورها دفعها إلى ترديد السلوك الذي مارسه النازيون في ألمانيا؛ فارتكبت إبادةً جماعية بحق سكان غزة، بالتزامن مع سياسات التهجير والتجويع. وفي نهاية المطاف، انقلب المشهد ضدّ إسرائيل.
ظنت إسرائيل أن اتّباع نهج القضاء على ما يسمى بمحور المقاومة التوسعي بغطاء دولي، مبرر كاف للقيام بالإبادة الجماعية في غزة، فيما اتبعت السعودية ديناميكية سياسية ودبلوماسية ذكية تتماشى مع اتّباعها الحياد الإيجابي، وربطت إسرائيل في عهد جو بايدن احتياجات الأمن القومي للسعودية بالتطبيع، لكن السعودية ربطته بإقامة الدولة الفلسطينية، إلّا أنّ هوس التطبيع مع السعودية خصوصا أنها لم تحقق ما أرادته من التطبيع مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب ولا زالت تعاني من عزلة، جعل إسرائيل تعتقد أن القضاء على محور المقاومة التوسعى بغطاء دولي يجعلها تطلب الثمن من السعودية بإقامة علاقة مقابل ذلك، لكن السعودية تمكنت من فصل احتياجات الأمن القومي للسعودية وربطها بالتطبيع في عهد الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب.
ورغم ما حققته إسرائيل من مكاسب عبر قمع ما يُسمى بمحور المقاومة بدعم دولي، فإن استمرارها في الإبادة والتهجير والتجويع في غزة أفقدها رصيد التعاطف الدولي الذي بنته منذ عام 1945 باعتبار اليهود ضحايا اضطهاد عرقي وحملات تطهير وإبادة في أوروبا. فقد حصدت القضية اليهودية تعاطفاً واسعاً في أعقاب الهولوكوست التي قضى فيها نحو ستة ملايين يهودي تحت وطأة النظام النازي الألماني.
ورغم أن هذا الرصيد جُمِع بشكل مدروس وممنهج بعيداً عن الاجتهادات الفردية، فهو نتاج الصهيونية العالمية التي تحوّلت إلى نموذج استنسخته بعض الأقليات في الشرق الأوسط. وحاولت إسرائيل تكرار هذا النموذج في محافظة السويداء السورية، خشية نجاح مشروع الدولة السورية الجديدة برعاية سعودية والذي كان سيشمل إقامة دولة فلسطينية. إلا أن المملكة العربية السعودية بادرت إلى تفعيل ورقة العشائر ثم ورقة الاقتصاد، وضخّ استثمارات لتنمية المناطق السورية وتوفير فرص عمل لشعبها، لترسيخ الاستقرار.
◄ اليوم يخلق مؤتمر نيويورك مناخاً دولياً قوياً يدفع نحو مؤتمر جديد في 21 سبتمبر 2025، لإعادة حلّ الدولتين إلى الواجهة وتقديم خارطة طريق متكاملة لإنهاء النزاع
استنزفت السعودية التعاطف الدولي مع إسرائيل بشكل عكسي، وأظهرت أن ما تعرّض له اليهود من اضطهاد تمارسه اليوم دولة إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني. ولم يعد رصيد التعاطف العاطفي مبررًا للسياسات الإسرائيلية القائمة على الإبادة والتجويع والتهجير.
عقد المجتمع الدولي في 28 يوليو 2025 مؤتمرًا دوليًا رفيع المستوى استضافته الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك على مدى يومين، برعاية السعودية ومشاركة فرنسية، بهدف التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حلّ الدولتين. ولم تعترض الولايات المتحدة جذريًا رغم عدم مشاركتها الفعلية، وبدا ذلك جليًا حينما سُئِل الرئيس ترامب عن تزايد اعتراف الدول بدولة فلسطين المستقلة فأجاب “فليفعلوا ما يشاؤون،” في إشارة إلى عدم وقوفه في وجه هذا الزخم العالمي. وعندما طُرح احتمال إعلان رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر اعتراف بلاده بدولة فلسطين على غرار ما أقدم عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قال ترامب إنه لا يرى مانعًا. كما صرح وزير الخارجية البريطاني في المؤتمر بأن عدم اعتراف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدولة فلسطين المستقلة يُعدّ خطأً أخلاقيًا وإستراتيجيًا. وللمرة الأولى تجد إسرائيل نفسها محاصرة دوليًا، ويقرّ الإستراتيجيون اليهود بأن مشروع “إسرائيل الكبرى” الذي طرحه نتنياهو في الأمم المتحدة بات غير قابل للتطبيق، خاصة وأنه يصطدم بإرادات دول إقليمية فاعلة في المنطقة، على رأسها السعودية وتركيا ومصر وإيران.
عندما افتتح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش المؤتمر، شكر السعودية التي رعت الحدث بمشاركة فرنسا. وقال إن النزاع مستمر منذ أجيال متحدياً الدبلوماسية وقرارات لا تُحصى، متحدياً القانون الدولي. وأكد أنّ لا شيء يبرر هجمات 7 أكتوبر 2023 ولا يبرر تدمير غزة وتجويع سكانها. وأضاف أن الضمّ التدريجي للضفة الغربية غير قانوني ويمثّل جزءاً من واقع منهجي يفكك ركائز السلام في الشرق الأوسط. وختم مؤكداً أن حلّ الدولتين يمثل فرصة نادرة.
حتى الآن، وافقت 148 دولة من أصل 193 دولة في الأمم المتحدة على الاعتراف بفلسطين. وتشمل 15 دولة أوروبية من أصل 27 دولة، من بينها السويد وإسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا والنرويج. جاء اعتراف هذه الدول ليس بالشكل الكلاسيكي فقط، بل باعتراف حقيقي تجاوزت به التسويف.
تبنت السعودية القضية الفلسطينية منذ اجتماع الملك عبدالعزيز بالرئيس روزفلت على ضفاف البحيرات المرة في قناة السويس في 14 فبراير 1945. كان روزفلت مؤمناً بالقضية الصهيونية ومعتمداً على الناخبين اليهود لإعادة انتخابه في 1944، وأشار إلى وعد بلفور 1917 بحق اليهود في وطن قومي. استفسر عن رأي الملك عبدالعزيز، فأجابه الأخير بأن أفضل الأراضي والمنازل التي اضطهدتهم في ألمانيا يجب أن تُترك لهم أو لأحفادهم. رد روزفلت بأن اليهود يرغبون في الإقامة في فلسطين، فقال الملك إن عليهم العودة إلى الأراضي التي طُردوا منها أو الاستقرار في دول المحور. وختم بالقول إن على الحلفاء لو لم يكن بوسعهم السيطرة التامة على ألمانيا فلماذا خاضوا تلك الحرب المكلفة؟ وفي ختام الاجتماع تعهّد روزفلت بعدم اتخاذ أيّ قرار مصيري بشأن فلسطين إلا بالتشاور الكامل مع العرب، وهو تعهد غير مكتوب اعتبره الملك أقوى من أيّ وثيقة رسمية. وقد أكّد روزفلت هذا التعهد قبل وفاته بأسبوعين، في 5 أبريل 1945.
عقب وفاة روزفلت، صوّت الرئيس هاري ترومان لصالح قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947. قبلت إسرائيل خطة التقسيم، لكنها ظلت حبرية على ورق. ثم جاءت مبادرة مدريد في 6 مارس 1991، تلتها اتفاقيات أوسلو عام 1993. واليوم يخلق مؤتمر نيويورك مناخاً دولياً قوياً يدفع نحو مؤتمر جديد في 21 سبتمبر 2025، لإعادة حلّ الدولتين إلى الواجهة وتقديم خارطة طريق متكاملة لإنهاء النزاع. وتراهن فرنسا على تغيير سياسي في إسرائيل بعد موافقة الكنيست على قانون يدعو إلى ضم الضفة الغربية، رداً على انعقاد مؤتمر حلّ الدولتين في نيويورك.