يا أهلاً بـ"تميم الخير" في عمّان
زيارة الأمير تميم بن حمد آل ثاني إلى الأردن لم تكن مجرد حدث بروتوكولي، بل لحظة سياسية كثيفة بالمعنى، تفيض بالرمزية، وتؤكد أنّ التاريخ أحياناً يُكتب في هيئة استقبال شعبي مهيب، لا في نصوص الاتفاقيات وحدها. حين دخل تميم عمّان، لم يكن مجرد أميرٍ تحط طائرته في مطار، بل كان حاملًا لفكرة: أن الصف العربي يمكن أن يُعاد تشكيله من جديد، إذا وُجدت الإرادة والصدق.
الأردنيون الذين اصطفّوا على الطرقات، ورفعوا الأعلام، لم يكونوا يستقبلون ضيفاً فحسب، بل يستقبلون شريكاً في الوجدان السياسي، ورمزاً لخطّ عربي يصرّ على البقاء. فعمّان التي اعتادت أن تكون صخرة صامدة في وجه الرياح، وجدت في الدوحة صديقاً يشاركها عبء الحاضر وثقل المستقبل.
لقد كان الملك عبدالله الثاني من أوائل من قرأوا معادلة الخليج والعالم بعيون مختلفة، فوقف إلى جانب قطر في أشدّ اللحظات صعوبة، مؤمنًا بأنّ استقرارها ليس شأناً قطرياً فقط، بل مسألة تتعلق بسلامة الصف العربي كله. دعم الملك لم يكن مجرد موقف دبلوماسي، بل خيارا إستراتيجيّا وفلسفة حكم: أن الأردن لا يتخلى عن أشقائه حين تُختبر الأخوّة، وأنّ التضامن العربي لا يُقاس بالتصريحات، بل بالمواقف التي تُسجَّل في دفاتر الزمن. ومن هنا، فإن استقبال عمّان لتميم لم يكن طقساً بروتوكولياً، بل ثمرة لمسار طويل من الوفاء المتبادل بين القيادة الأردنية والقيادة القطرية.
الفلسفة العميقة في هذا المشهد أن العرب، مهما بدا بينهم من خلافات، لا يزالون قادرين على استدعاء لحظة وحدة، لحظة تذكّرهم بأنّ القومية ليست شعاراً غابراً، بل هي خيار وجودي أمام عالمٍ يتربص بهم مستغلا ضعفهم. زيارة تميم كانت بمثابة تمرين على استعادة معنى: أن الكرامة المشتركة لا تُشترى في أسواق السياسة، بل تُصنع في ساحات الشعوب.
الفلسفة العميقة في هذا المشهد أن العرب، مهما بدا بينهم من خلافات، لا يزالون قادرين على استدعاء لحظة وحدة، لحظة تذكّرهم بأنّ القومية ليست شعاراً غابراً، بل هي خيار وجودي أمام عالمٍ يتربص بهم مستغلا ضعفهم
ولذلك، فإنّ استقبال الأردن لتميم الخير لم يكن مجرد حفاوة ضيافة، بل إعلان هوية: نحن معاً، رغم الانكسارات. نحن صفٌّ عربي واحد، حين تُختبر الأمم في موازين التاريخ. في هذا اللقاء، العالم قرأ الرسالة: أن العرب ما زالوا يملكون القدرة على تجاوز الجراح، وصناعة قوة ناعمة صلبة، قوامها الوفاء المتبادل بين القيادات والشعوب.
وإذا كانت لحظات الوحدة العربية تُكتب بحبر الرمزية في استقبالات الشعوب، فإن استدامتها تُبنى بحجر الاقتصاد والإستراتيجية. زيارة تميم إلى عمّان لم تكن مجرد تأكيد على الأخوّة، بل منصة لتعزيز تعاون ملموس يجمع بين ثروة قطر الاقتصادية ودور الأردن المحوري في استقرار المنطقة: استثمارات قطرية في البنية التحتية الأردنية، وشراكات في الطاقة والتعليم، لتكون الجسر الذي يحوّل الرمز إلى واقع. لكن التحدي يكمن في تجاوز الفوارق السياسية الإقليمية وصياغة رؤية مشتركة تحمي هذا التعاون من تقلبات العالم، لتكون عمّان والدوحة، معاً، نواة لاستقرار عربي يتجاوز حدود البروتوكولات إلى بناء قوة اقتصادية وسياسية متماسكة.
لكن ما بعد الخبر أخطر من الخبر نفسه. فزيارة تميم إلى عمّان ليست مجرد عقود استثمار أو تصريحات دبلوماسية، بل إشارة إلى أن المحور القطري – الأردني يُبنى بهدوء كخيار إستراتيجي ثالث، بين محاور الخليج ومشاريع الإقليم المتصارعة. ما يُقال في الغرف المغلقة إنّ عمّان والدوحة تسعيان إلى صياغة هندسة جديدة للأمن العربي، تقوم على مبدأ التوازن بين الغرب والشرق، وعلى تحويل الاقتصاد إلى أداة قوة لا إلى أداة تبعية. هنا يصبح المشهد أعمق من تبادل ابتسامات وصور: إنه مشروع إعادة توزيع الأوراق في الشرق الأوسط، حيث يثبت الأردن نفسه كقوة مبادرة لا مجرد موقع جغرافي، وتظهر قطر كركيزة مركزية في إعادة توزيع أوزان المنطقة.
فأهلاً بتميم الخير في عمّان. أهلاً بمشهدٍ أعاد رسم فلسفة الأخوّة العربية في زمنٍ يحتاج إلى من يعيد للصف العربي تماسكه، ويحوّل الاستقبال الشعبي المهيب إلى عنوانٍ جديد للعصر. لكن يبقى السؤال: هل تكون عمّان والدوحة نواة لشرقٍ عربي خامس، يتجاوز جراح الماضي ويصوغ معادلة جديدة في وجه العالم؟