"وش في وش".. كوميديا سينمائية تفكك الخلافات الزوجية
تتطلب صناعة فيلم في موقع واحد موضوعا مهما جذابا للمتفرج، وممثلين بقدرات جسدية وتعبيرية كبيرة، ونصا وسيناريو متماسكا كي يرغب المشاهد في استكمال العمل إلى آخره، وهذا الأمر يضع على كاهل المخرج والكاتب مسؤولية مضاعفة. ومن هذه الأفلام في السينما العربية فيلم “وش في وش” الذي لم يسلط عليه ضوء كبير رغم موضوعه المهم.
هل تصمد العلاقات الزوجية الحديثة أمام الضغوط المالية؟ إلى أي مدى يمكن للتشبث بالرأي وعدم التنازل من أجل المصلحة العامة أن يدمرا العائلة؟ وكيف يمكن لتدخلات الأهل في مشكلات الأزواج أن تدمر الزواج بكامله؟ هذا ما يناقشه واحد من الأفلام المصرية حملتني الصدفة لمشاهدته، وهو فيلم “وش في وش” للنجمين محمد ممدوح وأمينة خليل، والذي لم يحظ بمتابعة جماهيرية وتغطية إعلامية واسعة رغم جدية الموضوع وسلاسة الطرح.
تدور أحداث الفيلم في إطار اجتماعي كوميدي لايت، عن زوجين هما شريف (محمد ممدوح) وداليا (أمينة خليل)، يواجهان مشكلة بسيطة تتصاعد بسبب تدخل أهاليهما في حياتهما الزوجية، وتصل إلى حد الرغبة في الانفصال، لكنهما لا يواجهان المشكلة بمفردهما وإنما تسارع عائلتاهما إلى الشقة، وتحتد النقاشات بينهم جميعا ويتمسك كل طرف برأيه ويستنجد بأهله وأصحابه، مما يؤدي إلى سلسلة من المواقف الكوميدية والدرامية التي تكشف عن تأثير التدخلات العائلية على العلاقات الشخصية.
الفيلم من تأليف وإخراج وليد الحلفاوي، ويشارك فيه أنوشكا وأحمد خالد صالح وأسماء جلال ومحمد شاهين ومحمود الليثي وسلوى محمد علي وبيومي فؤاد. وتبدأ أول مشاهده بمشاجرة محتدمة بين الزوجين، وسرعان ما ينضم أفراد عائلتيهما المتطفلين إلى الخلاف، ويحبسون أنفسهم عن طريق الخطأ داخل الشقة طوال الليل.
يركز الفيلم على تأثير التدخلات العائلية على العلاقات الزوجية، وكيف يمكن أن تؤدي إلى تفاقم المشاكل البسيطة. ويُظهر أهمية الحوار والتفاهم بين الزوجين، مبرزا التحديات التي قد تواجهها العلاقات في ظل الضغوط الاجتماعية.
“إيجا نحلوها وجه في وجه”، ربما يستخدم أشقاؤنا المصريون عبارة قريبة منها، لكنها في تونس تعني دعوة إلى حل المشاكل بشكل مباشر، بحوار ثنائي يعبر خلاله كل طرف عما يزعجه في الآخر ويستمع إليه، طبعا مثل هذه السلوكيات والحوارات لا يحبذها إلا الأشخاص الناضجون فكريا ونفسيا، أما الغالبية فيتهربون من كل مواجهة مباشرة لأنها ستقود إلى خلافات أكبر، التفاوض ليس سهلا وليس كل امرئ يتقبل أن يقول له الآخر “أنت أخطأت في حقي في كذا وكذا”، يحتاج الإنسان نفسا طويلا وتجارب كثيرة ليدرك أن الآخر حين يعاتبه فهو لا يكرهه أو يثقل كاهله بالتزامات عاطفية خانقة وإنما هو يصف ما عاشه من مشاعر وظروف نفسية جراء أفعال لم تكن مرضية له.
جاء الحوار في هذا الفيلم راقيا، مترابطا، واعتمد لغة تراوح بين الدراما والكوميديا، تبتعد عن الابتذال المنتشر منذ سنوات في السينما المصرية والعربية، بل ترتقي بمستوى النقاش بين الأفراد حتى وإن كان ذلك النقاش في إطار خلاف عائلي كبير، ما يعكس مجهودا كبيرا في الكتابة بلغة سينمائية مقنعة وممتعة، برزت أهميتها أكثر في مواقف كوميديا اعتمدت أحيانا على كوميديا الموقف، وهي مواقف كوميدية كانت مناسبة لكل شخصية من الشخصيات، حيث كان “وش في وش” من الأفلام القليلة التي عرضت خلال العامين الماضيين والتي تعكس توازنا في توزيع الأدوار بين الممثلين، أبطالا وثانويين، وبالتالي لا يمكن للمشاهد أن يتوقع أي ممثل سيقول أو يفعل ما يضحكه.
وتكون المسؤولية ثقيلة على عاتق النص وأداء الممثلين خاصة حينما تدور أحداث الفيلم في موقع تصوير واحد، أو ما يصطلح عليه بـ”دراما المكان الواحد” أو سينما “الموقع الواحد”، هنا تتركز الأعين والآذان على الممثلين، لأن المكان سرعان ما يكون مألوفا ويفقد قدرته على لعب دور المؤثر في التصاعد الدرامي للفيلم.
حكاية رئيسية، هي الصراع بين الزوجين، مدعمة بحكايات وصراعات ثانوية، بين أفراد العائلتين، وبين الخدم وبين الأصدقاء، مع محاولات الجميع المستميتة للخروج من المنزل لكن دون جدوى، ومواقف كوميدية وصادمة، وحقائق تكتشف من هنا وهناك، فالممثلون أشبه بنا عموم البشر، لم نعد نملك القدرة على الجلوس مع بعضنا البعض لساعات طويلة في مكان مغلق دون أن ندخل في خلافات ونقاشات حادة.
وركز الفيلم على نقطة مهمة وهي كيف يكون تدخل الأهل في حياة الزوجين من أكثر العوامل التي قد تؤدي إلى خلل في العلاقة الزوجية، خصوصا إذا تجاوز تدخلهم حدود النصح إلى فرض الرأي أو التحكم. وبعض الأهل، بدافع الحب أو الحماية، يتدخلون في أدق تفاصيل العلاقة، ما يخلق نوعا من التوتر والضغط على الزوجين، ويؤدي أحيانا إلى شعور أحد الطرفين بأنه غير مستقل أو غير موثوق به. ومع مرور الوقت، قد يتحول هذا التدخل إلى صراع ولاء بين الشريك وأهله، وهو ما يؤدي إلى تآكل الثقة بين الزوجين وتزايد الخلافات التي قد تنتهي بالانفصال.
المخرج وليد الحلفاوي نقل لنا كل الاضطرابات النفسية والمشاحنات بين أبطال فيلم “وش في وش” بالكثير من الحرفية
كما ركز الفيلم على المشكلات المالية التي تُعد من أبرز أسباب الطلاق في العديد من المجتمعات، إذ يمكن أن تسبب توترا دائما بين الزوجين، خاصة إذا كان هناك تفاوت في الدخل أو اختلاف في أسلوب إدارة المال. عندما لا يتفق الزوجان على أولويات الإنفاق أو طريقة الادخار، أو المنزل الذي يختارونه ليؤويهم، تتحول هذه الخلافات إلى صراعات شخصية يشعر فيها كل طرف بأن الآخر لا يقدّر جهده أو لا يتحمل المسؤولية.
وركز الفيلم أيضا على فكرة مهمة ألا وهي كيف ينقل كل إنسان الأحداث، كيف يرويها للآخرين، كيف يعيد وصف مشاعره، كي يحكي أفعاله، وكيف يضيف في أحيان كثيرة أفعالا كان يود أن يفعلها وأقوال كان يود لو قالها، في المقابل كيف يضيف أيضا أفعالا وأقوالا لم تصدر عن الطرف الثاني، لكن عقله فهمه وحللها وحولها من “أحكام” ذاتية إلى حقيقة صدقها وأصبح يتعامل بأنها حدثت وخلفت ضررا كبيرا.
في الحالتين نقل الزوج والزوجة، ممدوح وأمينة، الشجار الذي حدث بينهما بصورة مبالغ فيها، زادت الطين بلة، وجعلت صديق كل واحد منهما يسارع إلى نجدته والدفاع عنه ولم لا تشجيعه على مواجهة الآخر وطلب الطلاق منه والحصول على أقصى ما يمكن أن يحصل عليه من حقوق؟
ويقول علم النفس إنه غالبا ما يكون نقلنا لما حدث بيننا وبين أي شخص آخر من شجار أو حتى مواقف جميلة محكوما بمشاعرنا الخاصة، مما يجعل روايتنا للأحداث قد تنحرف، دون قصد، عما حدث بالفعل. فقد نركز على ما آلمنا ونتجاهل ما قيل أو فُعل بنية حسنة، أو نُضخّم التفاصيل التي تلامس جرحا داخليا لدينا، مما يجعل الآخرين يتلقون صورة مشوّهة عن الطرف الآخر.
في الوقت ذاته، نحن أنفسنا قد نفسر تصرفات الآخر، وفي حال الفيلم، تصرفات الشريك، بطريقة مبالغ فيها، دون أن ننتبه لتأثير مشاعر الغضب أو الإحباط أو السعادة العارمة على فهمنا للموقف. هذا التحيّز العاطفي في سرد الحدث، مثلما هو الحال في الفيلم، لم يؤذ فقط صورة الشريك أمام الآخرين، بل عمّق شعور البطلة بالظلم والخيبة وأنها لا قيمة لها عند زوجها الذي قرر تغيير المنزل دون مراعاة أنه يوفر لها رفاهية الحياة التي تريدها، لذلك أصبح حل الخلاف أكثر صعوبة مما هو عليه في الحقيقة.

في النهاية، حين يهم الجميع بالمغادرة بعد أن فتح المنزل، ويقف الزوجان وقفة صادقة وجها لوجه، ويتخلى كل واحد منهما عن السيناريوهات الكارثية التي كتبها في عقله وصدقها، يتصالحان ويقرران أن يمر اليوم بهدوء ثم يتفقان على قرار ينتصر فيه الحب، وهي رسالة واضحة بأن الخلافات داخل البيت الواحد عادة ما تحل بين أفراد البيت الواحد، وكل تدخل خارجي مبالغ فيه ما هو إلا مشاكل جديدة تضاف إلى المشكلة الأساسية.
وقد نقل لنا المخرج وليد الحلفاوي كل هذه الاضطرابات النفسية والمشاحنات بين أبطال الفيلم بالكثير من الحرفية، حيث تتبعت الكاميرا بلقطات متنوعة كل حركات وسكنات الممثلين، واستثمرت في تعبيرات وجوههم وأجسادهم والصراعات الكبرى والثانوية بينهم، وكيف تطورت شخصياتهم في زمن لم يتعد الـ12 ساعة وهم مسجونون في منزل واحد.
وبالعودة إلى سينما الموقع الواحد، فهي نوع سينمائي منتشر في الغرب، وكذلك في السينما العربية. ويتطلب هذا النوع مهارات خاصة ودقيقة على مستوى السيناريو والحوار والتمثيل والإخراج وعناصر ديكور المكان الوحيد، على عكس المعتاد في الفيلم السينمائي الذي يصور في العديد من المواقع والأماكن بل ومرات كثيرة يصور في مدن ودول كثيرة.
وفي العموم، تركز صناعة أفلام الموقع الواحد، على الحوار والشخصيات واختلافاتها الفكرية والاجتماعية والنفسية التي تحرّك الموقف الدرامي، وتتخذ من عنصر المكان نقطة ارتكاز للأحداث، ما يمنح المشاهد فرصة للتركيز على بواطن الشخصيات أكثر من الانشغال بالأمكنة وتنوعها.
وقدمت السينما المصرية، على سبيل المثال، على مدار تاريخها نحو 15 فيلما من أفلام “الموقع الواحد”، أبرزها “بين السماء والأرض”، الذي يروي حكاية مجموعة من الأشخاص يتعطل بهم مصعد، ومع طول الانتظار يشعرون بالضيق وفقدان الأمل في النجاة، وهو من بطولة عبدالسلام النابلسي وهند رستم، وعُرض عام 1959، ويصنف في المرتبة الـ58 في قائمة أفضل 100 فيلم بتاريخ السينما.
كما قدم فيلم “122” نموذجا عن سينما الموقع الواحد من خلال قصة حب بين شاب من طبقة شعبية وفتاة من ذوي الهمم، يصابان في حادث أليم، ليبدآ مواجهة أسوأ كابوس في حياتهما، ويقضيان أوقات مفزعة في المستشفى. الفيلم من بطولة طارق لطفي وأمينة خليل، وعُرض عام 2019.