من مارشال بايدن الإيراني إلى مارشال ترامب الإسرائيلي
العدوان الإسرائيلي على قطر في التاسع من سبتمبر، بحجة القضاء على قيادات حماس السياسية، نسخة مُصغَّرة مما قامت به تل أبيب ضد طهران في الثالث عشر من يونيو الماضي. في النسخة الإيرانية أو “حرب الاثني عشر يوماً” كما باتت تُعرف، بدأت قبل اثني عشر يوماً من قمة الناتو التي انعقدت في لاهاي.
عند صعود الرئيس الأميركي إلى الطائرة التي أقلَّته إلى القمة، طويت النسخة الإيرانية التي من المتوقع أن تكتب تل أبيب نسخة مُحدَّثة منها قريباً جداً. العدوان على الدوحة جاء بدوره، قبل اثني عشر يوماً من موعد الاجتماع التشاوري الرفيع، المقرر في 22 سبتمبر بين قادة العالم، لمناقشة تفاصيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
السؤال هنا: ما الذي تريدهُ إسرائيل بعيداً عن تفكير المؤامرة وقريباً من إعادة هيكلة النظام الشرق أوسطي الجديد؟
واشنطن كانت تريد عبر النسخة الإيرانية إقناع بروكسل بترقية تل أبيب كمقاول أمني لسياساتها في الشرق الأوسط. أيضاً، أرادت أن تكشف للاتحاد الأوروبي تناقضات الموقف العربي من طهران. بالتالي وبسبب النسخ الأمنية المختلفة للدول العربية فهي لا تصلح كي تكون شريكاً سياسياً لأوروبا. باختصار؛ رؤية المنطقة كبرميل نفط وعقدة مواصلات بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا.
العنوان الذي اخترته لمقالي السابق يستطيع اختصار المشهد من شُرفة واشنطن وتل أبيب “قمة الناتو 2025: مزيداً من إسرائيل وأوكرانيا وقليلاً من الصين.” العدوان على الدوحة أو “بروكسل” الدبلوماسية في الخليج العربي، يأتي من نجاحها كصندوق بدائل للسياسات الإستراتيجية الأميركية في المنطقة.
ترامب يحلُم بأن الضربات الإسرائيلية المُركَّزة، مع جُرعة العقوبات الاقتصادية التي يطلقها ككلاب جمركية ضد اقتصاديات العالم، كفيلة بأن تُحقق له ما يريد
الدوحة من صفقة السلام الأفغانية، مروراً بتعاطيها مع الضربة الإيرانية الصاروخية ضد قاعدة العديد الأميركية على أراضيها، وصولاً إلى المفاوضات بين حماس وإسرائيل لعقد صفقة سلام في غزة، أثبتت بأنها مكوك دبلوماسي لا يهدأ. كذلك استضافتها لأرقى المراكز البحثية في العالم. ودورها في تغيير الصورة النمطية عن المنطقة العربية، بعد استضافتها لبطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2022.
الرئيس الأميركي الأسبق جو بايدن، كان قد كتب مقالاً في “الفورين أفيرز” بتاريخ 23 يناير 2020 “لماذا على أميركا أن تقود مرَّة أخرى؟” وضَّح فيه المقاربة الأميركية للنظام الأمني في الشرق الأوسط. حاول فيه أيضاً فتح باب العودة إلى صفقة نووية جديدة مع طهران، بعد أن قام دونالد ترامب عام 2018 بإخراج واشنطن منها.
مفادُ هذه المقاربة “عمليات عسكرية منخفضة الشدَّة مع تدفق معلومات أمنية واستخباراتية، تؤسس لاندماج التصوّرات الأمنية المختلفة لدول الشرق الأوسط.” أعطيت عنواناً عريضاً لمجمل سياساته بعد مرور عام “مارشال بايدن الإيراني في الشرق الأوسط.”
عالم السياسة جيمس دورسي، وجد أن نسختي الإنجليزية من هذا المقال التي حاولت نشرها في مدوَّنته الخاصَّة، غير مقبولة وغير مفهومة للقارئ الغربي. كان تقييمه شبيهاً بما كتبته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في مذكراتها عن “فوضى الاصطلاحات في العالم العربي.”
استحضرتُ عالِماً وسياسية هنا لكي أُبيَّن قُدرة الدوحة على النجاح في مخاطبة الآخر وإضافة الشروح العربية لمصطلحات الثقافة السياسية دولياً. هكذا فإن إسرائيل التي تحلُم بتلزيمها أمنياً من قبل الناتو، لا تتحمل وجود بروكسل دبلوماسية تقوم بتقويض الصورة النمطية التي تُغذيها المؤسسات الإسرائيلية عن نفسها وعن المنطقة العربية مثل معهد ميمري “فيل ديمقراطي في صحراء استبدادية.”
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خاطب مجلس اللوردات والعموم البريطانيَّين في الثامن من يوليو الماضي. صرَّح فيه بأنَّ إسرائيل لها “دور في هيكلية الأمن الجماعي في المنطقة.” لكن رفض وفي سياق الطرح بأن تُرمى مفاتيح هذا الهيكل في “جيب تل أبيب”.
الخلاف بين تل أبيب والترويكا الأوروبية – فرنسا وبريطانيا وألمانيا – لا يتعلَّق برفضهم لتلزيم الأولى أمنياً. هم يرفضون تحديداً فتح خزينتهم لتوسع إسرائيل الترابي. ما حصل في غزة وبغضِّ النظر عن النتائج التي تتمناها الأجندات المتصارعة، بيَّن الحدود الإسرائيلية. تل أبيب تحاول أن تترجم حدث السابع من أكتوبر 2023 إلى فشلٍ أمني. بروكسل ترجمت الحدث كخطأ جسيم، ناتج من تأخير حل الدولتين في حساباتها الجيوستراتيجية.
الولايات المتحدة بدورها تتعاطى مع إسرائيل كعصا ماريشال لتوضيح الحدود للحلفاء والخصوم. هي تريد من السياسات الأوروبية في الشرق الأوسط، أن تمر عبر مصفاة تل أبيب. ممنوع أن تُجرِّب قنوات أخرى في ترتيبات الأمن والطاقة بعيداً عن إيقاع عصا الماريشالية.
التفوَّق الجوي الإسرائيلي لن يكون كافياً لتحقيق المطلوب. تزامن الإعلان الأميركي عن نيَّة الاستهداف العسكري لفنزويلا لا يعدو كذلك سوى كونه استعراضاً للقوى في أميركا الجنوبية، لتحقيق الانتصار في الشرق الأوسط؛ أي إعطاء وزن حتّى للعطسة الإسرائيلية.
واشنطن تُراهن في لعبة القمار الجوي الذي تقوم به تل أبيب ضد الدول العربية، على جعل السياسات العربية قابلة للطرق والتطويع
العدوان الإسرائيلي على الدوحة كان خياراً. ما جعله أجندة، الاختراق الأمني الذي قامت به المقاومة الفلسطينية في القدس في الثامن من سبتمبر، ساهم في دفعه إلى استخدام تلك الورقة. ما حدث في القدس كان سكيتش بحجم صورة شخصية للوحة السابع من أكتوبر 2023.
تُراهن واشنطن في لعبة القمار الجوي الذي تقوم به تل أبيب ضد الدول العربية، على جعل السياسات العربية قابلة للطرق والتطويع. الأوضاع الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي في الكثير من الدول العربية، قادر بحسب واشنطن وتل أبيب على صناعة نسخة سريعة من الربيع العربي، لتمرير مكاسب في غزة، سوريا، وبقية الدول العربية.
غزة مثال صارخ وواضح، بأنَّ الدول العربية حتّى لو كانت لا تستطيع فعل شيء سوى العطس فإن ترامب وبنيامين نتنياهو لن يكونا قادرين على فعل شيء. ظاهرة الالتفاف “حول العلم” نتيجة التهديدات الخارجية ستنطلق أوتوماتيكياً، عندما تبدر إشارة من الأنظمة العربية بعدم القُدرة على فعل شيء.
أنصح المحللين السياسيين أيضاً، خاصَّة أولئك الذين يربطون بين اكتشاف مكامن لطاقة النفط والغاز في الدول العربية غير المستقرة مثل لبنان وسوريا، وغزة التي تحاول إسرائيل إبادتها بأن يتروّا قليلاً. هذه المبالغات هي نوع من الدعاية والإعلان للمزيد من التدخل الدولي. وتشجيع أوروبا على دعم إسرائيل كي تتخلَّص من أنشوطة طاقة النفط والغاز الروسية، بسبب تضارب الأجندات بين موسكو وبروكسل في أوكرانيا.
رسالة العدوان الإسرائيلي على الدوحة، قلم أميركي لرسم الخطوط الحمراء لمرونة السياسات العربية. ترامب يحلُم بأن الضربات الإسرائيلية المُركَّزة، مع جُرعة العقوبات الاقتصادية التي يطلقها ككلاب جمركية ضد اقتصاديات العالم، كفيلة بأن تُحقق له ما يريد.
ردود الفعل العربية ستُحدِّد خطوات الفريقين الأميركي والإسرائيلي. أتمنى أن تكون الاستجابة على قدر التحديات لا على مقاسات مزاج ترامب وتغريداته. طبعاً، وظيفة الرئيس الأميركي الحالي هي أن نرى الولايات المتحدة كقوَّة فقدت اتزانها، لكنها في الحقيقة تمارس الدور الاستعماري بأقبح صوره.