من قره باغ إلى زنغزور.. معركة الممرات بين تركيا وروسيا وإيران

فقدان أرمينيا لحدودها البرية مع طهران يعني تحويل المجال الحيوي الإيراني في القوقاز إلى رقعة مُراقَبة من قبل أطراف غير صديقة.
الأحد 2025/08/10
التحكم في المعابر عنوان للصراعات

يدخل جنوب القوقاز مرحلة حساسة من إعادة هندسة خرائطه البرية على نحو غير مسبوق منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. فالاتفاق الذي تبلورت ملامحه في المفاوضات الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان لا يقتصر على كونه تسوية حدودية أو ترتيبات لوجستية، وإنما يمثل تحوّلاً جيوإستراتيجياً عميقاً، يعيد صياغة ميزان القوى الإقليمي، ويفتح الباب أمام إعادة تموضع اللاعبين الدوليين في قلب الممرات البرية بين آسيا وأوروبا.

ورغم أن ممر زنغزور يكتسب اليوم زخماً غير مسبوق في الجغرافيا السياسية، فإن جذوره تمتد إلى الحقبة السوفييتية، حين أعادت موسكو رسم الحدود الداخلية للجمهوريات القوقازية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ضمن سياسة توزيع جغرافي معقدة هدفت إلى منع تشكّل كيانات قومية متماسكة يمكن أن تهدد مركز السلطة في الكرملين.

في هذا السياق، أُلحقت ناخيجوان بأذربيجان كجمهورية ذات حكم ذاتي، بينما تُرك شريط زنغزور ضمن أراضي أرمينيا، ليشكّل حاجزاً برياً يفصل بين أذربيجان وناخيجوان من جهة، ويمنح أرمينيا منفذاً إلى إيران من جهة أخرى. هذا الترتيب عكس موازنة دقيقة بين المكوّنات العرقية الأرمنية والأذرية والكردية في الإقليم، وهو ما جعل الممر منذ ذلك الحين نقطة احتكاك كامنة بين يريفان وباكو، تنتظر فقط اللحظة التاريخية المناسبة لتنفجر.

◄ الصراع على ممر زنغزور ليس مجرد تنازع على خطوط خرائط، بقدر ما هو انعكاس لمنطق أوسع تتحدد فيه السلطة والسيادة عبر التحكم بالممرات والمعابر

من منظور جيوسياسي، يكتسب ممر زنغزور الممتد لأكثر من أربعين كيلومتراً على أقصى جنوب أرمينيا، على تماس مباشر مع الحدود الإيرانية أهمية مضاعفة، إذ إنه يشكّل حلقة الوصل الوحيدة بين أرمينيا وإيران، وفي الوقت ذاته الممر المفترض لربط أذربيجان بجمهورية ناخيجوان ذات الحكم الذاتي، ومن ثم بتركيا، ضمن مشروع أوسع تسعى أنقرة إلى تسويقه تحت لافتة “العالم التركي”. وإذا ما تم تنفيذ الربط البري وفق الشروط التي تسعى إليها باكو وحلفاؤها، فإن ذلك سيعني عملياً فصل أرمينيا عن إيران، وتطويق يريفان برياً وسط حدود مغلقة أو شبه مغلقة مع جيرانها كافة، باستثناء منفذ جوي هش وخطوط إمداد معقدة عبر جورجيا المضطربة في علاقاتها السياسية معها.

منذ خسارة أرمينيا لإقليم ناغورنو قره باغ في حرب 2020، ثم حلّ الكيان الأرمني المعلن هناك عام 2023، تحوّل ميزان المبادرة بشكل حاسم لصالح باكو. ففي السنوات التي سبقت تلك الهزيمة، كانت يريفان قد طرحت صيغة “تبادل الأراضي” كحل للنزاع: ممر لاتشين مقابل ممر زنغزور. غير أن تبدّل موازين القوة بعد الحرب، وتزايد النفوذ العسكري والسياسي التركي – الأذري، أفرغ هذه المعادلة من توازنها، وجعل من ممر زنغزور مطلباً إستراتيجياً غير قابل للمساومة بالنسبة إلى باكو، ولم يعد مشروطاً بتنازلات مقابلة.

هذه النقلة النوعية في الصراع تعكس الانتقال من نزاع إثني – إقليمي حول آرتساخ إلى مواجهة أوسع نطاقاً تتعلق بالبنية الجيوسياسية للإقليم بأسره، حيث باتت الممرات والحدود أدوات في لعبة إعادة الاصطفاف الإقليمي والدولي.

الانعكاسات على إيران لا تقل أثراً، ففقدان أرمينيا لحدودها البرية مع طهران يعني قطع شريان جغرافي – اقتصادي مهم، وتحويل المجال الحيوي الإيراني في القوقاز إلى رقعة مُراقَبة من قبل أطراف غير صديقة. وإذا ما تم إنشاء الجسر المزمع في زنغزور تحت إدارة شركة عسكرية أميركية فإن الأمر يتجاوز البعد الاقتصادي إلى تهديد أمني مباشر، مع تمركز بنية تحتية حساسة في خاصرة إيران الشمالية. هذا التهديد يكتسب وزناً أكبر إذا أخذنا بالاعتبار أن طهران ترى في الحدود الأرمنية منفذاً إستراتيجياً لتجاوز الضغوط التركية – الأذرية ومحاولات حصارها اللوجستي.

يتجاوز الصراع على زنغزور حدود التنافس الإقليمي، ليصبح جزءاً من سباق عالمي على إعادة تشكيل مسارات التجارة والطاقة. فالولايات المتحدة، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، ترى في الممر فرصة إستراتيجية لتعزيز ما يُعرف بـ”الممر الأوسط”، وهو مشروع يربط الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى، بحر قزوين، أذربيجان، جورجيا، وتركيا، متجاوزاً كلّاً من الأراضي الروسية والمجال الإيراني. في هذا التصور، يشكّل زنغزور الحلقة المفقودة التي تكمل هذا الطريق التجاري البديل، ما يفسر الاهتمام الغربي بوجود ترتيبات أمنية في الممر، سواء عبر شركات عسكرية أميركية أو عبر آليات رقابة أوروبية. بالنسبة إلى بروكسل وواشنطن، فإن السيطرة غير المباشرة على هذا الشريان لا تحقق فقط أهدافاً اقتصادية، بل تضعف قدرة موسكو وطهران على استخدام الجغرافيا كسلاح في وجه الضغوط والعقوبات، وتفتح الباب أمام بنية تحتية عابرة للحدود، تعيد توزيع النفوذ في قلب أوراسيا.

◄ إذا ما تم تنفيذ الربط البري وفق الشروط التي تسعى إليها باكو وحلفاؤها، فإن ذلك سيعني عملياً فصل أرمينيا عن إيران، وتطويق يريفان برياً وسط حدود مغلقة أو شبه مغلقة مع جيرانها كافة

بالنسبة إلى روسيا، التي تواجه انكفاءً نسبياً بفعل الحرب الأوكرانية وتزايد العزلة الغربية، يشكّل ممر زنغزور ساحة محتملة للحفاظ على موطئ قدم في جنوب القوقاز، عبر السعي لفرض صيغة إشراف أو مراقبة تمنحها دوراً في حركة الإمداد والتجارة الإقليمية. غير أن هذا المسعى يصطدم باندفاع أنقرة وباكو نحو تقليص أيّ نفوذ روسي مباشر، ما يجعل الدور المحتمل لموسكو هشّاً وعرضة للتهميش.

أما تركيا، فتبدو على أعتاب تحقيق أحد أكثر أهدافها الجيوسياسية جرأة منذ نهاية الحرب الباردة: الربط البري المباشر مع أذربيجان، ومن ثم مع كامل الامتداد التركي – الآسيوي وصولاً إلى آسيا الوسطى. هذا الربط يتجاوز المسألة الرمزية لـ”الوحدة التركية” ليمنح أنقرة قدرة عملية على التحكم بجزء من سلاسل الإمداد والطاقة بين الشرق والغرب، ويمنحها أوراقاً إضافية في التفاوض مع الاتحاد الأوروبي وروسيا وإيران.

إن الصراع على ممر زنغزور ليس مجرد تنازع على خطوط خرائط، بقدر ما هو انعكاس لمنطق أوسع تتحدد فيه السلطة والسيادة عبر التحكم بالممرات والمعابر. فالتحكم بالممر هنا يعادل في أثره السيطرة على خط أنابيب، أو ميناء إستراتيجي، أو قاعدة عسكرية؛ إذ يحدد مسارات التجارة، واتجاهات النفوذ الثقافي والسياسي، ويعيد رسم حدود النفوذ في قلب آسيا الصغرى والقوقاز.

في هذا السياق، يصبح الاتفاق بين أرمينيا وأذربيجان اختباراً نموذجياً لمعركة الممرات في القرن الحادي والعشرين، حيث تلتقي الجغرافيا مع القوة العسكرية ومع الإستراتيجيات العابرة للحدود. ولعل ما يجعل هذه المعركة شديدة الحساسية هو أنها تجري على تخوم ثلاثة من أكثر الفاعلين الدوليين تنافسية وتعارضاً في المصالح: روسيا، تركيا، وإيران، مع حضور أميركي متجدد يسعى لاختراق المسرح عبر البنية التحتية الأمنية والاقتصادية.

6