حول معضلات العراق الإستراتيجية
ما يجري في العراق اليوم يتجاوز أي تراكم لتدخلات إقليمية، بقدر ما يُكرّس لنموذج من “الدولة الناقصة”؛ حيث لا تمتلك القدرة على إنتاج مؤسسات مستقلة عن منطق الوصاية الخارجية. هذا النموذج يتجسد بوضوح في منظومة “الحشد الشعبي”، التي غدت تجسيدًا حيًّا لمفهوم “الدولة الموازية”؛ أي الكيان الذي يتغذى على شرعية الدولة، ويقاسمها سلطتها، لكنه في الجوهر يربط القرار السياسي والعسكري بمركز نفوذ خارجي، هو إيران.
عندما يتخذ السلاح شكلًا قانونيًا من دون أن يخضع لمنطق الدولة المركزية، يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج التبعية، وتجربة “الحشد الشعبي” أقرب إلى نموذج “الجماعات شبه الدولتية”، حيث يصبح العنف وسيلة لبناء شرعية بديلة تتفوق على الدولة الرسمية. في هذه الحالة، يغدو الحشد حاملًا سياسيًا لعقيدة إقليمية تعمل على تفكيك الهوية الوطنية العراقية وإحلال الولاء العابر للحدود مكانها.
مفهوم “الدولة الأسيرة” يقدّم مدخلًا ضروريًا لفهم المأزق العراقي، فالمسألة لم تعد مقتصرة على ضعف مؤقت في مؤسسات الدولة، لكنها تحولت إلى حالة بنيوية تُختطف فيها أدوات الحكم من قبل فاعلين غير رسميين يمتلكون قدرة أكبر من قدرة السلطة المركزية على فرض القرار. بهذا المعنى، تبدو الدولة العراقية أشبه بجهاز يعمل تحت وصاية خارجية، فيما القرار الوطني مرهون بمصالح شبكات مرتبطة عضويًا بالنفوذ الإيراني.
بقاء "الحشد الشعبي" كقوة فوق-دولتية يضعف قدرة العراق على بناء إستراتيجية أمنية متماسكة ويفتح الباب أمام استمرار التبعية لإيران أو انزلاق البلاد إلى صدام داخلي خطير
القضاء العراقي، المفترض أنه آخر حصون السيادة، يعيش أيضًا في ظل حالة من “الاستعمار المؤسساتي”، فالفصائل المرتبطة بإيران جعلت من القضاء أداة معطّلة عبر التهديد والترهيب وتقييد قراراته. بذلك انتفى شرط العدالة الذي يشكّل أساس الدولة الحديثة. وهنا يمكن الاستفادة من مقاربات ماكس فيبر حول الدولة كجهاز يحتكر العنف والشرعية القانونية، فالعراق اليوم يفتقد أحد أهم أركان هذا التعريف المتمثل باستقلالية القانون عن ضغوط القوة غير الرسمية.
فعليًا؛ إذا كان القضاء هو الحصن الأخير لأي دولة حديثة، فإن اختناقه تحت ضغط هذه القوى يكشف عن شكل من “الاستعمار المؤسساتي”، حيث تصبح المحاكم عاجزة عن ممارسة وظيفتها، في حين يتكرّس ما يسميه علماء الاجتماع السياسي “الشرعية الموازية”، أي شرعية تتغذى من السلاح والانتماء الطائفي والعقائدي، لا من القانون أو الدستور. هنا يفقد القانون وظيفته كمعيار جامع، ويتحول إلى مجرد غطاء لسلطة موازية تعيد إنتاج التبعية.
تجربة “الحشد الشعبي” في العراق تذكرنا بتجارب دول أخرى عانت وما زالت تعاني من عسكرة السياسة. ففي لبنان، تحوّل حزب الله إلى بنية فوق-دولتية شبيهة، تملك مؤسساتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية، وتتحكم بالقرار الوطني من موقع يتجاوز الدولة. في اليمن، أنتجت “جماعة الحوثي” نموذجًا آخر لما يمكن تسميته “الدولة الموازية المسلحة”، حيث تتراجع المؤسسات الرسمية أمام قوة عسكرية مرتبطة بإيران. هذه المقارنات تكشف نمطًا إقليميًا واحدًا يدور حول تحويل المجتمعات إلى فضاءات هشّة تُدار عبر وكلاء مسلحين.
يبدو أن العراق يُجسد ملامح ما يُعرف بـ”الدولة السائلة”، وهو مصطلح يشير إلى غياب البنية الصلبة التي تُمكّن الدولة من فرض إرادتها المستقلة. فالمؤسسات القائمة لا تملك وزنًا حقيقيًا أمام النفوذ الموازي للفصائل، ولا تستطيع تحويل النصوص الدستورية والقوانين إلى واقع فعلي. هذا الوضع يجعل العراق فضاءً مفتوحًا للتدخلات الخارجية، ومسرحًا لتجاذبات إقليمية تُدار فوق أرضه لا عبر دولته.
في ظل هذا السياق يقف العراق عند مفترق وجودي؛ فإما أن يعيد تعريف ذاته كدولة سيادة حقيقية، أو أن يستمر كحالة “نصف-دولة”، تتوزع سلطاتها بين مؤسسات رسمية ضعيفة وأذرع مسلحة مرتبطة بالخارج. هنا يصبح مفهوم “السيادة المنقوصة” مفتاحًا لفهم المشهد العراقي أكثر، فالعراق ليس فاقدًا لسيادته بالكامل، لكنه أيضًا لا يملك القدرة على ممارستها بصورة كاملة، ما يجعله عرضة للتلاعب الإقليمي والدولي معًا.
العراق يعيش حالة "التحول المؤجل"؛ انتقال سياسي لم يكتمل بسبب بنى معرقلة تفرضها الفصائل المسلحة. هذه الحالة تجعل أي مشروع إصلاحي مجرد إطار شكلي يُفرغ من مضمونه، والنتيجة أن العراق يبقى نصف دولة
وما يزيد الصورة وضوحًا هو أن العراق يعيش حالة “التحول المؤجل”؛ انتقال سياسي لم يكتمل بسبب بنى معرقلة تفرضها الفصائل المسلحة. هذه الحالة تجعل أي مشروع إصلاحي مجرد إطار شكلي يُفرغ من مضمونه، والنتيجة أن العراق يبقى نصف دولة بحيث يملك مؤسسات رسمية، لكنه يفتقر إلى القدرة على ممارسة سيادته الفعلية.
إن بقاء “الحشد الشعبي” كقوة فوق-دولتية يضعف قدرة الدولة العراقية على بناء إستراتيجية أمنية متماسكة. فبدلًا من جيش وطني قادر على ضبط الحدود والداخل، نجد تداخل سلطات ومراكز قرار متعددة. هذا التداخل يفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة؛ فإما استمرار الحشد كأداة ضغط إيرانية تُستدعى كلما احتاجت طهران إلى ورقة تفاوضية، أو انزلاق العراق إلى صدام داخلي حين تحاول الدولة فرض سلطتها على هذه المنظومة.
العراق جزء من شبكة إقليمية تتحرك فيها إيران بمرونة، من لبنان إلى اليمن. إبقاء العراق ساحة مفتوحة يتيح لطهران التحكم في جغرافيا الصراع مع خصومها، واستخدام الأراضي العراقية كمنصة لإرسال الرسائل العسكرية والسياسية. استمرار هذا الدور يعني أن العراق سيظل رهينة للعبة الوكالة، ما يحرمه من بناء دوره الإقليمي المستقل.
يمكن القول إن النفوذ الإيراني تحوّل إلى معضلة أمن قومي للعراق. استمرار هذه الهيمنة يعني أن بغداد لا تتحكم في قرارها السيادي ولا في إيقاعها الاستراتيجي. واللحظة الحالية تكشف أن العراق يعيش حالة انكشاف داخلي أمام قوة الحشد الشعبي، وخارجي أمام استخدامه كأداة في صراعات إيران الإقليمية.
الخروج من هذا المأزق يتحقق عبر قطيعة معرفية مع منطق الدولة الموازية. فالعراق يحتاج إلى إعادة تأسيس عقد اجتماعي يقوم على احتكار الدولة وحدها للعنف، وعلى استقلالية القضاء، وعلى إقصاء أي ولاءات عابرة للحدود. من دون ذلك، ستظل الدولة أسيرة توازن هش بين سلطتها الرسمية وسلطة إيران المضمرة داخل نسيجها.