ما بعد انهيار إيران.. هل يبدأ الشرق الأوسط الخامس
الشرق الأوسط الخامس لا يُولد فجأة، بل يتشكّل كطبقة جديدة فوق أربعة أنساق من التحوّل، من سايكس – بيكو، إلى الناصرية والانقلابات، إلى كامب ديفيد والسلام المنفرد، ثم إلى فوضى الغزو الأميركي والربيع العربي. كل مرحلة أعادت تعريف العدو، والحليف، ووظيفة الدولة. واليوم، مع انكفاء الدور الإيراني التقليدي، لا نرث شرقًا أوسط جديدًا بقدر ما نواجه اختبارًا لصياغة شرق لا يُدار بالسلاح فقط، بل بمن يملك الجرأة على تخيّل الخطر… وتعريف النجاة.
لم تسقط إيران كدولة بل كوظيفة. كانت حجر التوازن في هندسة الشرق الأوسط الرابع، ومجرد استمرارها لعقود لم يكن دليلاً على قوتها، بل على الحاجة الدولية إلى استمرارها. لم تكن العواصم تخاف منها، بل كانت تستخدمها كمسوّغ للجم كل تحرر عربي من المعسكرات القديمة. كانت إيران مثل “التجربة المشروطة” في مختبر إستراتيجي أوروبي، مطلوب منها أن تشتعل دائماً، دون أن تحترق تماما. الآن، وقد أُسقطت، فإن السؤال الحقيقي لا يدور حول مستقبل طهران، بل حول من سيُمنح صلاحية إعادة تعريف المنطقة كلها بعد نهاية الحاجة إليها.
إيران لم تُهزم عسكريّا، بل انتهت وظيفيّا. كان لا بد من إنهاء مهمتها حتى يُعاد توزيع الأدوار. نحن لا نقف على أنقاض نظام، بل على نهاية مرحلة كاملة حكمت المنطقة بنظام “الردع الخائف”. كانت إيران تلعب دور العدو الضروري، الذي يمنح الجميع مبررات البقاء. اليوم، أُخرجت من النص، تماما كما تُخرج الشخصية الثانوية من رواية انتهى دورها في الحبكة.
◄ الخطاب الرمزي والفكري قد يتقوى ويُحدث تغيرات، لكنه لا يغني عن القوة الصلبة في الأرض، الاقتصاد، الجيش، والتحالفات الميدانية
الشرق الأوسط لم يعد بحاجة إلى جيوش حتى يعيد تشكيل نفسه، بل إلى من يملك القدرة على صناعة “الإجماع الجديد”. الإجماع على من هو العدو، من هو الحليف، من هو الممثل، ومن هو الغائب. لم تعد الخرائط هي المسألة، بل الخطاب. ولم تعد السلطة تُقاس بالقوة، بل بمن يملك الحق في السرد. كما قال فوكو، من يملك تعريف الحقيقة، يملك السلطة دون حاجة إلى إطلاق النار. لقد دخلنا عصر ما بعد القوة، حيث السيادة تُمارس عبر منصات، لا عبر حدود، وحيث النصر يُعلن في غرفة تحرير، لا في غرفة عمليات.
انهيار إيران لحظة مُصطنعة بدقة عالية. بدا كأنه حادث… لكنه في الحقيقة قرار. أُطلق لكي يُولد فراغ لا بد أن يُملأ بطريقة لا تعيد إنتاج السيناريوهات القديمة. فالفراغ هنا ليس فراغاً في الأرض، بل في الذهنية الأمنية العالمية. وهذا الفراغ لا تملأه العواصم المهزوزة، بل من يملك ثلاثية السيطرة الجديدة، الرمز، الشبكة، والرواية.
السعودية، اليوم، ليست مجرد دولة تُجري إصلاحات داخلية، بل لاعب يُعاد تعريف المركز حوله. مشروعها لم يعد يتعلق فقط بالنفط أو التنوع الاقتصادي، بل بتحويل المملكة إلى محرّك لمخيلة المنطقة. إنها تسحب الشرعية من أدوات الماضي لتعيد توزيعها بلغة غير مألوفة، القوة الناعمة كقوة صلبة، والإدارة الرمزية كحائط ردع.
الإمارات تمارس اللعبة ذاتها ولكن بطريقة أخرى، صمت عالٍ، بنية تحتية للنفوذ، وشبكات مصالح تجعلها أكثر حضورا من جيوش الدول الكبيرة. هي تعرف أن زمن التوسع العسكري انتهى، وزمن التمدد الاقتصادي الرمزي بدأ.
الأردن لا يحتاج لأن يصرّح، يكفي أنه يدرك. ففي مشهد إقليمي تتسارع فيه التحولات وتُرمى فيه العواصم في مهبّ الصفقة أو التصعيد، يحتفظ الأردن بواحدة من أندر أدوات القوة، الإدراك العميق لطبقات الصراع، من الداخل الفلسطيني إلى الخارطة الدينية إلى اشتباك الجغرافيا بالتاريخ. ليس بحاجة إلى إعلان دور، لأنه جزء من كل دور لا يكتمل دونه. يمسك بعقدة القدس لا بقرار فردي، بل بشرعية عمرها قرن، ويدير التوازنات لا كدولة صغيرة، بل كعقل قديم يعيش في جسد ما زال مرنا. في مرحلة ما بعد انهيار إيران، لا يُنظر إلى عمّان كمتفرج، بل كمفصل حساس في أي ترتيب جديد للمنطقة. إن فوضى بلا صوت عمّاني… لا تكتمل.
ومع ذلك، فإن أي محاولة لإعادة كتابة المنطقة عبر أدوار هندسية قد تصطدم بالحقيقة الأعمق، أن الشرق الأوسط ليس لوحة شطرنج بل طاولة مرتجّة، يُحرّكها لاعبون متعددو الأهواء، وأحياناً بلا قصد. فمنطقة كهذه لم تُعرف يوما بانضباطها للخرائط، بل بانفجار الحوادث وتراكم المصالح وتقاطع الطارئ بالمزمن. وحتى الشرق الأوسط الخامس، إن وُلد، لن يكون نتاج مشروع فكري أو هندسة مثقفين، بل نتيجة ارتطامات غير متوقعة بين الطموح والفوضى.
◄ إيران لم تُهزم عسكريّا، بل انتهت وظيفيّا. كان لا بد من إنهاء مهمتها حتى يُعاد توزيع الأدوار. نحن لا نقف على أنقاض نظام، بل على نهاية مرحلة كاملة حكمت المنطقة بنظام "الردع الخائف"
كما أن إيران، رغم أزماتها الاقتصادية والسياسية، ما زالت لاعبا إقليميا فاعلا، تمتلك تحالفات إستراتيجية مع روسيا، الصين، وكتل أخرى، وتحافظ على نفوذها عبر وكلائها في اليمن، العراق، ولبنان. الثورة الإسلامية مستمرة كرمز مقاومة يضمّن خطابها أبعادا عميقة من الهوية السياسية والدينية.
ولا يمكن إغفال أن التباينات داخل بعض المحاور العربية الطامحة إلى إعادة تشكيل المشهد الإقليمي لا تزال تفرز تحديات ملموسة، سواء في مقاربة ملف اليمن، أو في أنماط التعامل مع إسرائيل، أو في كيفية التعامل مع تيارات الإسلام السياسي. أما الأردن، ورغم ما يتمتع به من شرعية تاريخية متجذّرة، فإنه يواصل تحرّكه ضمن توازن دقيق بين التزاماته الإقليمية وحساباته الدولية، في ظل شبكة من الضغوط والتحالفات المتشابكة.
ولا يمكن تجاهل أدوار اللاعبين الأساسيين الآخرين في المعادلة الإقليمية، إسرائيل التي لا يزال مصير القضية الفلسطينية يحدد مكانتها، تركيا التي تتصارع على زعامة العالم السني، ومصر بقوتها الديموغرافية والعسكرية.
الخطاب الرمزي والفكري قد يتقوى ويُحدث تغيرات، لكنه لا يغني عن القوة الصلبة في الأرض، الاقتصاد، الجيش، والتحالفات الميدانية. فالصراع بين السعودية وإيران، على سبيل المثال، ما زال يعتمد بشكل كبير على الجماعات المسلحة والميليشيات.
يبقى السؤال الأهم، هل يتكوّن الشرق الأوسط الخامس من مشروع نخبوي مركزه التحالفات الطامحة والإصلاحات الرمزية، أم أنه سينهض -كالعادة- من ركام الفوضى، ومن صراعات لا تخضع لنظرية، ولا تنتظر تفويضا؟ التاريخ لا يمنح جوائز للنوايا، بل يختار من يحسن إدارة اللحظة حين تسقط فيها المعادلات القديمة دون مقدمات.