مارك سافايا.. كلداني مسيحي عين ترامب المُفتّحة على العراق
في خضم التحولات الجيوسياسية التي يشهدها الشرق الأوسط برز اسم مارك سافايا كمبعوث أميركي خاص للعراق في خطوة تعكس رغبة إدارة الرئيس دونالد ترامب في إعادة تشكيل العلاقة مع بغداد وفق رؤية أكثر صرامة ووضوحا. هذا التعيين لا يأتي من فراغ، بل يُمثل جزءا من خطة أوسع تهدف إلى تقليص التدخل العسكري الأميركي وتعزيز النفوذ الاقتصادي ومحاولة تحجيم النفوذ الإيراني المتزايد في العراق والمنطقة.
مارك سافايا هو رجل أعمال أميركي من أصل عراقي ينحدر من عائلة كلدانية مسيحية، ويُعرف بعلاقاته الواسعة في الشرق الأوسط، خصوصا في العراق. لم يكن سافايا شخصية عامة قبل تعيينه، لكنه لعب أدوارا خفية عبر التواصل مع الجاليات العراقية في المهجر والمساهمة في جهود دبلوماسية غير رسمية من بينها الإفراج عن الباحثة إليزابيث تسوركوف التي كانت محتجزة لدى كتائب حزب الله.
تقول بعض المصادر المطلعة إن اسم سافايا لمع خلال السنوات الأخيرة في سوق القنب الهندي أو ما يعرف بـ”الماريغوانا” في ولاية ميشيغان، فهو مؤسس شركة Leaf & Bud، إحدى أبرز سلاسل بيع القنب الهندي في هذه الولاية التي نشأت وازدهرت خلال ما يعرف في الولايات المتحدة بـ”الاندفاعة الذهبية” التي شهدتها ميشيغان بعد تقنين زراعة القنب الترفيهي وبيعه.
لكن سافايا فضلا عن كونه رجل أعمال وسياسيا مقربا من ترامب، يمتلك فهما عميقا للثقافة العراقية ويُنظر إليه كوسيط قادر على بناء جسور بين واشنطن وبغداد بعيدا عن البيروقراطية الدبلوماسية التقليدية. ويعكس تعيينه كمبعوث خاص ثقة إدارة ترامب بقدرته على التحرك بمرونة وفتح قنوات جديدة للحوار مع أطراف عراقية نافذة سواء داخل الحكومة أو في المجتمع المدني.
لماذا هذا التعيين الآن
تعيين مبعوث خاص بدلا من سفير يدلّ على أن واشنطن تنظر إلى العراق كملف مليء بالتحديات التي تتطلب معالجة مباشرة من البيت الأبيض
يأتي تعيين سافايا في وقت حساس، حيث يشهد العراق تحديات أمنية واقتصادية متزايدة، وسط تصاعد التوترات الإقليمية بين الولايات المتحدة وإيران. فإدارة ترامب، التي تسعى إلى تقليص التكاليف العسكرية في الخارج، ترى في العراق ساحة إستراتيجية يمكن من خلالها تحقيق أهداف متعددة دون الانخراط في مغامرات عسكرية جديدة.
ومن هنا، يُفهم تعيين سافايا كمبعوث خاص على أنه جزء من خطة لإعادة ضبط العلاقة مع بغداد عبر أدوات أكثر تأثيرا ومرونة مثل الدبلوماسية الاقتصادية والضغط السياسي، وأيضا التواصل المجتمعي.
جاء تعيين سافايا قبل أقل من شهر من موعد الانتخابات العراقية المقررة في 11 نوفمبر المقبل، والتي يُنظر إليها على أنها واحدة من أكثر الاستحقاقات الانتخابية أهمية منذ عام 2003، في ظل تصاعد التوترات السياسية والنقاشات حول العلاقة مع الولايات المتحدة وإيران ومستقبل موازين القوى في بغداد.
كما يأتي هذا التعيين بعد مرور أيام فقط على مؤتمر شرم الشيخ، الذي وصفه ترامب بـ”مؤتمر السلام”، واعتبرته تحليلات أميركية خطوة ضمن تحرك أوسع في المنطقة. وكانت صحيفة “ذي تايم أوف إزرائيل” قد كتبت أن القمة “قد تمهّد لحركة أوسع نحو التطبيع مع إسرائيل في المنطقة، وهو هدف مشترك لإسرائيل والإدارة الأميركية،” الأمر الذي يرجّح أن تعيين سافايا يعكس رغبة أميركية في إعادة تموضع العراق في المنطقة.
ومن أبرز المهام التي أوكلت إلى سافايا قيادة الحوار الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق خاصة في الملفات الأمنية والاقتصادية، وأيضا مراقبة النفوذ الإيراني داخل العراق ومحاولة تقليصه عبر دعم الحكومة العراقية في مواجهة الميليشيات المرتبطة بطهران. وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والتجارة ومكافحة الفساد، والأهم تقديم تقارير مباشرة للرئيس ترامب حول تطورات الوضع العراقي بعيدا عن القنوات التقليدية لوزارة الخارجية.
جاء لتنفيذ خطة ترامب
لا تعتمد خطة ترامب في العراق على التدخل العسكري بل على إعادة تشكيل العلاقة وفق ثلاثة محاور رئيسية، حيث يسعى الرئيس الأميركي إلى إنهاء ما يسميه “الحروب التي لا تنتهي”، والعراق يمثل نموذجا لهذا النوع من التدخلات. لذلك، فإن الخطة المنتظرة ستركز على تقليص الوجود العسكري الأميركي مع الحفاظ على قواعد محدودة لأغراض التدريب والدعم الاستخباراتي.
وبدلا من الإنفاق العسكري تسعى إدارة ترامب إلى استخدام النفوذ الاقتصادي كأداة ضغط. ويشمل هذا دعم الشركات الأميركية في الحصول على عقود نفطية وتجارية في العراق. وتقديم مساعدات مشروطة للحكومة العراقية مرتبطة بالإصلاحات ومكافحة الفساد، إضافة إلى تشجيع الاستثمارات في البنية التحتية والطاقة بشرط وضوح الموقف العراقي من إيران.
وترى أوساط مطلعة أن العراق يُعد ساحة نفوذ إيرانية منذ سنوات عبر الميليشيات المسلحة والأحزاب السياسية، ومن هذا المنطلق تأتي خطة ترامب الجديدة في هذا البلد كمحاولة لدعم الحكومة العراقية في فرض سيطرتها على السلاح المنفلت، والضغط على بغداد لاتخاذ موقف واضح من طهران وإنهاء سياسة “الحياد الرمادي”، والأهم هو استخدام أدوات دبلوماسية واقتصادية فاعلة لعزل الميليشيات المرتبطة بإيران.
لكن هذه الإستراتيجية، أو الخطة، التي يراها ترامب ممكنة في العراق تصطدم بعدة عراقيل ومطبّات لا يمكن تجاوزها بسهولة وفق توصيف بعض المحللين والخبراء قياسا بما يعيشه الداخل العراقي من علاقات مترابطة ومتشابكة مع المحور الإيراني.
تحديات كبيرة تنتظر المبعوث الجديد
رغم وضوح الأهداف يواجه تنفيذ خطة ترامب في العراق تحديات كبيرة، فالمشهد السياسي العراقي معقد ويشهد انقسامات داخلية وصراعات بين القوى الشيعية والسنية والكردية. ولفت بعض المسؤولين العراقيين السابقين إلى أن تعيين مبعوث خاص بدلا من سفير يدلّ على أن واشنطن تنظر إلى العراق كملف مليء بالتحديات التي تتطلب معالجة مباشرة من البيت الأبيض.
يضاف إلى ذلك أن النفوذ الإيراني متجذّر في مؤسسات الدولة والمجتمع ويصعب تفكيكه دون تصعيد. فالشارع العراقي يعاني من أزمة ثقة تجاه الولايات المتحدة بسبب تجارب الاحتلال والتدخلات السابقة، والانتخابات العراقية المقبلة قد تُعيد تشكيل الخارطة السياسية، وهو ما يصعّب على واشنطن بناء تحالفات مستقرة.
لكن نجاح سافايا يعتمد على قدرته على تحقيق توازن دقيق بين المصالح الأميركية والسيادة العراقية، فإذا تمكن من بناء علاقات ثقة مع الأطراف العراقية وتقديم دعم ملموس في ملفات مثل الطاقة ومكافحة الفساد، فقد يتمكن من إعادة تشكيل العلاقة بين واشنطن وبغداد.
وبالنسبة إلى الكثير من المراقبين في بغداد وواشنطن، لم يتضح ما إذا كان الرئيس الأميركي يلمّح إلى نية اقتصادية جديدة تجاه العراق أم أنه يلوّح بتحويل ملفه إلى هدف مالي واستثماري مفتوح ضمن سياق أوسع لإعادة التموضع الأميركي في المنطقة، وهذا الغموض في خطاب ترامب ليس جديدا، إذ غالبا ما يمزج بين لغة المال والنفط والخطاب السياسي، ما يثير قلقا في العراق من أن تتحول البلاد مجددا إلى ساحة تجاذب.
في المقابل ترى أطراف سياسية عراقية أن هذه الخطوة قد تمثل بداية توجه أميركي جديد نحو العراق بعد فترة من الفتور في العلاقات، معتبرة أن تعيين مبعوث خاص قد يكون مؤشرا على اهتمام متجدد بملفات حساسة، من بينها الفصائل المسلحة، والوضع الأمني والسياسي الداخلي. ورغم تباين المواقف تبقى التقييمات الأولية حذرة، في انتظار ما سيفعله سافايا ميدانيًا بعد تسلّمه مهامه رسميًا.
مارك سافايا ليس مجرد مبعوث دبلوماسي، بل يمثل نهجا جديدا في السياسة الأميركية تجاه العراق وهو نهج يعتمد على الوساطة والنفوذ الاقتصادي والدبلوماسية غير التقليدية، أما بخصوص خطة ترامب فهي تسعى إلى تحقيق أهداف إستراتيجية بأقل كلفة ممكنة عبر أدوات جديدة وشخصيات يعتبرها الرئيس الأميركي محل ثقة وقادرة على التنفيذ على أرض الواقع.
يظل العراق ساحة معقدة تتطلب فهما عميقا لتاريخ الديناميكيات الداخلية والتوازنات الإقليمية، وسافايا بما يمتلكه من خلفية ثقافية وسياسية قد يكون أحد مفاتيح هذا الفهم إذا ما أُحسن استخدامه.