لبنان بين معادلة السلاح والسيادة

الأزمة ليست في "سلاح حزب الله" ولا "التشدد الإسرائيلي"، بل في البنية السياسية اللبنانية التي اعتادت العيش على التوازنات الهشّة.
الأحد 2025/08/31
إما سلاح الجيش وإما سلاح الحزب

في المشهد اللبناني الراهن تبدو معادلة السلاح والسيادة بمثابة قلب الأزمة السياسية باعتبارها تمسّ جوهر الدولة نفسها. فحين تتوزع القوة المسلحة بين مؤسسات رسمية وكيانات موازية تصبح الدولة معلّقة وعاجزة عن أداء وظيفتها الأساسية المعروفة باحتكار العنف المشروع وتكريس السيادة. وهذا المأزق لا يقتصر على لبنان وحده، بل يضعه في مصاف تجارب إقليمية تحولت فيها السلطة إلى ساحة توازنات بين الداخل والخارج، فيما ظلّت الدولة غائبة أو مغيّبة.

بحسب ماكس فيبر، الدولة الحديثة تُعرّف بقدرتها على احتكار العنف المشروع. لبنان، منذ نشأته، عجز عن تثبيت هذا الاحتكار، إذ ظل السلاح موزعاً بين الطوائف والأحزاب، وتحوّل مع الزمن إلى جزء من البنية السياسية وليس مجرد أداة ظرفية. هذا الوضع أنتج معادلة مزدوجة تقوم على دولة رسمية تستند إلى القانون والدستور، ودولة موازية تفرض حضورها من خلال القوة المسلحة. وفي ظل هذه الازدواجية، يتآكل المعنى الجوهري للسيادة، إذ لم يعد المواطن ينظر إلى الدولة كمرجع وحيد للأمن، بل إلى طائفته أو حزبه كبديل عملي.

هنا يبرز التشابه مع التجربة العراقية بعد 2003. ففي العراق، لم يعد الصراع محصوراً بين حكومة مركزية وخصومها، بل نشأت منظومة مزدوجة متمثلة في مؤسسات رسمية ذات شرعية قانونية، وميليشيات مسلّحة ذات شرعية اجتماعية. النتيجة كانت دولة موازية تتحكم فعلياً بالقرار الإستراتيجي. كذلك لبنان اليوم يواجه الخطورة ذاتها من حيث ازدواجية السلاح التي تفرغ الدولة من محتواها، وتجعلها إطاراً شكلياً عاجزاً عن أداء وظيفتها السيادية.

جوهر الإشكالية في لبنان لا يتوقف عند وجود سلاح خارج الدولة، بقدر غياب عقد اجتماعي واضح يحدد من يحتكر السيادة وكيف تُمارس. فالشرعية هنا تتحول إلى مفهوم ملتبس؛ فهناك شرعية انتخابية للحكومة، وشرعية دستورية للمؤسسات، لكن هناك أيضاً شرعية “مقاومة” مرتبطة بالسلاح، وشرعية دولية مفروضة عبر القرارات الأممية. هذا التعدد في مصادر الشرعية يجعل الدولة غير قادرة على صياغة عقد جامع، ويدفع المواطنين إلى البحث عن حماية بديلة، ما يفاقم تفكك الهوية الوطنية.

النقاش الدولي حول لبنان غالباً ما يختزل المسألة في ثنائية مبسطة تتمثل في انسحاب مقابل نزع سلاح. هذه المقاربة، وإن بدت تقنية، تتجاهل أن الأزمة اللبنانية أعمق من معادلة تبادل الشروط. فهي أزمة بنيوية تتعلق بتوازن النظام السياسي الطائفي وبمدى قدرة الدولة على التحول إلى دولة مواطنة. لذلك، فإن الضغط الخارجي مهما كان قوياً لن ينجح في فرض حلّ ما لم ينبع من داخل الدولة نفسها، عبر إعادة تعريف السيادة كقيمة جامعة تتجاوز السلاح والطائفة.

من منظور ابن خلدون، العصبية شرط لنشوء الدولة، لكنها إذا تحولت إلى غاية بذاتها قضت على الدولة. فلبنان اليوم يعيش في ظل عصبيات طائفية متوازية، كل منها تحمي أبناءها لكنها تفتت الكيان الجامع. وهنا يصبح المشروع الحقيقي ليس فقط في نزع سلاح حزب الله، بل في تجاوز العصبية الطائفية إلى هوية سياسية مدنية، يكون فيها الولاء للدولة فوق الولاء للطائفة.

في قلب هذه المعادلة يقف الجيش اللبناني، المؤسسة الوحيدة التي يُفترض أن تكون جامعة وحيادية. لكن وضعه هشّ من حيث عدم وجود غطاء سياسي موحد، ولا موارد كافية، ولا توافق داخلي حول دوره في إدارة ملف السلاح. وهنا يكمن التحدي الأكبر حول إمكانية تحويل الجيش إلى إطار جامع يحتكر العنف المشروع.

♦ جوهر الإشكالية في لبنان لا يتوقف عند وجود سلاح خارج الدولة، بقدر غياب عقد اجتماعي واضح يحدد من يحتكر السيادة وكيف تُمارس

يُعيد المشهد اللبناني الراهن التذكير بمحدودية اتفاق الطائف عام 1989 الذي أعاد إنتاج الدولة على شكل تسوية طائفية هشة. فقد وفّر الطائف غطاءً دستورياً لإنهاء الحرب الأهلية، لكنه لم يعالج الإشكالية الجوهرية إزاء بناء دولة مواطنة تتجاوز القسمة الطائفية. وعلى العكس، كرّس الاتفاق منطق المحاصصة، فباتت مؤسسات الدولة انعكاساً للتوازنات بين الطوائف أكثر ممّا هي مؤسسات جامعة فوقها.

ومع مرور الزمن، ومع كل اختلال في هذا التوازن، انفتح الباب أمام قوى مسلّحة أو تدخلات خارجية لملء الفراغ. بهذا المعنى، فإن أزمة السلاح اليوم ليست سوى امتداد لأزمة الطائف نفسه متمثلة في دولة محكومة بتسويات ظرفية، عاجزة عن التحول إلى دولة سيادة مدنية مستدامة.

التفكيك الأعمق يكشف أن الأزمة ليست في “سلاح حزب الله” وحده ولا في “التشدد الإسرائيلي”، بل في البنية السياسية اللبنانية التي اعتادت العيش على التوازنات الهشّة. كل طرف يصرّ على شرطه بوصفه مدخلاً للحل، فيما يغيب السؤال الأساسي حول إمكانية استعادة الدولة لدورها كمرجع وحيد للسيادة، من دون أن تنفجر المعادلة الداخلية أو تُختطف بالكامل من الخارج.

تناولت دراسات عديدة مفهوم “الدولة الفاشلة” باعتبارها تلك التي تعجز عن أداء ثلاث وظائف أساسية: احتكار العنف المشروع، وتقديم الخدمات العامة، وضمان الشرعية السياسية. وإذا ما أسقطنا هذا الإطار على الحالة اللبنانية يتضح أن الأزمة الحالية لا تقتصر على ازدواجية السلاح، وإنما تكمن في عجز الدولة عن تلبية هذه الوظائف مجتمعة.

فالاحتكار المفترض للعنف لم يتحقق، إذ بات السلاح مشرذماً بين الدولة وفاعلين غير رسميين. أما الخدمات العامة فقد تراجعت إلى حد الانهيار مع الأزمة المالية والاقتصادية، لتتحول الطوائف والأحزاب إلى مزوّد بديل للخدمات. وفي ما يخص الشرعية، فإنها باتت موزعة بين شرعية دستورية شكلية تستند إلى مؤسسات الدولة، وشرعية اجتماعية – طائفية تُستمد من العصبيات والانتماءات الفرعية.

هذا التداخل جعل لبنان أقرب إلى حالة “الدولة الفاشلة” كما تُعرّف أكاديمياً، ليس بمعنى الغياب الكلي، وإنما بمعنى فقدان القدرة على العمل كمرجع وحيد جامع. ومن هنا، فإن استعادة دور الدولة يمرّ عبر إعادة بناء هذه الوظائف الثلاث في آن واحد، ليس عبر معالجة ملف السلاح وحده بمعزل عن باقي عناصر الفشل البنيوي.

لبنان يقف اليوم عند مفترق شائك؛ فإما أن تُعاد صياغة معادلة جديدة تُعيد الاعتبار لمفهوم الدولة كإطار جامع فوق الانقسامات، وإما أن يستمر التآكل التدريجي حيث يتحول كل طرف إلى “دولة داخل الدولة”. عندها لن يعود النقاش حول “سلاح” أو “انسحاب”، وإنما حول معنى لبنان نفسه، حول إن كان وطناً قادر على إنتاج دولة، أم ساحة مفتوحة تتوزعها الشروط والوصايات المتبادلة.

5