كيف حوّلت السعودية التنافس بين أميركا والصين إلى نقطة تعادل

الصين ترى أن هناك توازن قوى قادما سيمنحها القدرة على تشكيل بعض قواعد النظام العالمي أو تعديل بعضها بما يفضي إلى ظهور قطب جديد تقوده الصين يمنح القوتين خيارات أوسع.
الثلاثاء 2025/08/19
شراكة متوازنة

تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة التوازن الإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في منطقة الخليج، حيث تهدف إلى إعادة الاعتبار لسياسة الشراكة والتوازن ضمن إطار النظام الأحادي القائم، وذلك في مقابل الحد من نطاق التنافس الجيوسياسي الصيني، الذي يسعى إلى إضعاف الولايات المتحدة والتحرك نحو مركز النظام العالمي.

وترى الصين أن هناك توازن قوى قادما، وهو واقع يتأكد مع مرور الوقت، وسيمنحها القدرة على تشكيل بعض قواعد النظام العالمي، أو على الأقل تعديل بعضها، بما يفضي إلى ظهور قطب جديد تقوده الصين، يمنح القوتين خيارات أوسع مما كانت عليه في حقبة القطب الواحد.

صعود العملاق الصيني يبشّر ببزوغ فجر متعدد الأقطاب، ويشكّل فرصة لتقليص الهيمنة الأميركية الأحادية التي تغلّب مصالح الولايات المتحدة على حساب مصالح القوى الإقليمية والوطنية، أي أن الصعود الصيني يفرض نوعًا من التوازن الإستراتيجي.

السعودية أثبتت بعد الحرب الروسية في أوكرانيا أنها الفاعل الرئيسي في ملف الطاقة، والشريك الإستراتيجي للقوى الكبرى

لكنّ الصين راضية ببقاء الهيمنة الأميركية العالمية، التي لا تستطيع هي تحمّل تكاليفها أو تقاسم تلك التكاليف، لأن أولوياتها تتمثل في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية وتطوير علاقاتها التجارية مع دول المنطقة، خصوصًا وأن الولايات المتحدة تمتلك حلفاء في نحو 51 دولة في الأميركيتين، وأوروبا، ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ولديها 750 قاعدة عسكرية في 80 بلدًا، بينما تمتلك الصين أول قاعدة خارجية لها في جيبوتي، وتخطط لإقامة قواعد عسكرية أخرى يصل مجموعها إلى ثماني قواعد، واحدة منها في كمبوديا.

بكين أصبحت لاعبًا حلّ محل موسكو، واستبدلت الرأسمال الماركسي الأيديولوجي الذي كان يستهدف العقول وحاربه الجميع، برأسمال اقتصادي يتمدد في الأسواق دون أيّ عوائق. فقد ارتفع الناتج المحلي الصيني من 305 مليارات دولار عام 1980 إلى 1.4 تريليون دولار عام 2003، ثم إلى 12.7 تريليون دولار عام 2017، ليصل إلى 18 تريليون دولار عام 2024.

هدفت الصين إلى التحول من “مصنع العالم” إلى قمة التصنيع المتقدم، وحققت أكثر من 86 في المئة من أهدافها، كما وضعت خطة لتصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2050، ما أربك الولايات المتحدة، وبدأ الكونغرس الأميركي ينزعج من التقدم السريع للصين في مجال التصنيع المتقدم، أي أنها خرجت عن الإطار الذي رسمته لها واشنطن، والذي كان يهدف إلى تحقيق الرفاه للغرب.

أصبح الاتحاد الأوروبي أكبر شركاء الصين التجاريين بنحو 828 مليار دولار، تليه الولايات المتحدة بنحو 656 مليار دولار، ثم روسيا بـ147 مليار دولار، فالسعودية بـ110 مليارات دولار. كما أصبحت الصين أكبر مصدر في العالم بنحو 3.4 تريليون دولار، مقابل واردات بقيمة 2.59 تريليون دولار، أي أنها حققت فائضًا تجاريًا قدره 1.1 تريليون دولار. في المقابل، صدّرت الولايات المتحدة ما قيمته 2 تريليون دولار، مقابل واردات بـ3.1 تريليون دولار، أي بعجز تجاري قدره 1.1 تريليون دولار، منها 295 مليار دولار من العجز مع الصين في عام 2024.

السعودية سعت إلى الاستفادة من الصعود الصيني عالميًا لتوفير شريك آخر، وفتحت قنوات جديدة مع بكين. وقد حققت من هذه الشراكة توازنًا في العلاقة بين قوتين عالميتين تلتقيان في المنطقة

سعت السعودية إلى الاستفادة من الصعود الصيني عالميًا لتوفير شريك آخر، وفتحت قنوات جديدة مع بكين. وقد حققت من هذه الشراكة توازنًا في العلاقة بين قوتين عالميتين تلتقيان في المنطقة، واستفادت من كليهما من خلال الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والأمنية، مع تجنّب الانحياز لطرف على حساب الآخر. فهي تعتمد بشكل أكبر على الولايات المتحدة في مجال الأمن والدفاع، بينما تعتمد أكثر على الصين في مجال الطاقة التقليدية، باعتبار أن الصين تستورد أكثر من 40 في المئة من احتياجاتها من منطقة الخليج. وفي مجالات عدة، تعززت هذه الشراكة بزيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ في ديسمبر 2022، والاتفاق على دمج رؤية المملكة 2030 مع مبادرة الحزام والطريق، ما يدل على البعد الإستراتيجي الذي يأخذ طابعًا اقتصاديًا. فالسعودية تحرص على علاقات اقتصادية متينة مع الصين، وإستراتيجية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، لإعادة التوازن بين القوتين عبر الممر الهندي الأخضر مقابل الحزام والطريق الصيني.

استطاعت السعودية ضبط التنافس بين أميركا والصين في المنطقة، خصوصًا بعد استهداف منشآت أرامكو عام 2019، الذي هدد المصالح النفطية السعودية المرتبطة بأمن الطاقة العالمي، إلى جانب الحرب الروسية في أوكرانيا، وحرب “طوفان الأقصى” عام 2023. ومع سحب إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن منظومة الباتريوت من المنطقة، أصبحت سلاسل إمداد الطاقة العالمية مهددة، وهو ملف تتولاه السعودية. وقد وجدت الرياض أن الصين الأقدر على الحد من التوسع الإيراني، إذ رعت بكين تهدئة بين السعودية وإيران في مارس 2023، وكان ذلك الحدث الأبرز الذي لعبت فيه الصين دورًا إستراتيجيا يتجاوز التوسع الاقتصادي، وأثبت متانة العلاقة السعودية – الصينية. وهو ملف كانت الولايات المتحدة تحتكره، لتعديل ميزان إستراتيجي تغافلت عنه بحجة التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران. ومع ذلك، عززت السعودية تنسيق علاقاتها مع الولايات المتحدة بعد حرب “طوفان الأقصى” في القضايا الأمنية والإقليمية، فيما غاب الدور الصيني عن المشهد، رغم دعم بكين لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

أثبتت السعودية بعد الحرب الروسية في أوكرانيا أنها الفاعل الرئيسي في ملف الطاقة، والشريك الإستراتيجي للقوى الكبرى. وقد تلاقت التطلعات، وتقاطعت المصالح السعودية – الصينية عبر التقاء رؤية المملكة بمبادرة الحزام والطريق، كما تقاطعت المصالح السعودية – الأميركية عبر إقامة الممر الهندي إلى أوروبا لنقل الطاقة مقابل الحزام والطريق. بل إن هذين المشروعين يلتقيان في السعودية، ويحققان تكاملًا اقتصاديًا يُنتج علاقات إستراتيجية أقوى وأوسع، ويعزز التعاون في ملف النفط مع روسيا.

8