قصة تونس بين "الحكاء الأكبر" والمؤرخ ما لا نعرفه عن بورقيبة ومؤرخه فتحي ليسير

بورقيبة رجل مفتون بالتاريخ جعل منه أداة لصياغة أسطورته الشخصية.
الاثنين 2025/07/21
زعيم عبقري لا تخلو شخصيته من عيوب

في كتابه بورقيبة مؤرخا، يكشف فتحي ليسير، المؤرخ التونسي البارز، عن بورقيبة كـ"حكاء أكبر"، زعيم هوسه التاريخ وسعى ليكون مصدره الوحيد. بلغة ساحرة، يمزج ليسير التحليل العميق بالسرد الأدبي، مقدما رؤية جديدة لتونس من خلال عيني الزعيم ومؤرخه.

في كتابه الجديد "بورقيبة مؤرخا" يقدم المؤرخ التونسي فتحي ليسير رؤية ساحرة ونقدية للحبيب بورقيبة، الزعيم الذي لم يكتف بقيادة تونس نحو الاستقلال، بل سعى ليكون “الحكاء الأكبر” الذي يصوغ تاريخها بصوته الخاص.

ليسير، الأستاذ المتميز في الجامعة التونسية وأحد رواد “تاريخ الزمن الراهن”، ينسج في هذا الكتاب قصة بورقيبة المؤرخ، المهووس بالتاريخ والطامح ليكون “المصدر الوحيد” لرواية الحركة الوطنية التونسية. في الوقت نفسه، يبرز الكتاب موهبة ليسير الفريدة في مزج التحليل التاريخي العميق بلغة سردية ممتعة، بعيدة عن جفاف الأكاديمية. فمن هو فتحي ليسير، وكيف أضاء على جانب غير معروف من بورقيبة؟ دعني أروي لك هذه القصة المزدوجة عن الزعيم ومؤرخه.

حكاء مهووس بالتاريخ

م

فتحي ليسير، المولود عام 1953، ليس مجرد أستاذ تاريخ معاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة صفاقس، بل هو مفكر متعدد الأبعاد يجمع بين صرامة البحث العلمي وشغف الكتابة الأدبية. حاصل على الدكتوراه من جامعة منوبة، يُعتبر ليسير رائدا في دراسة التاريخ التونسي المعاصر، مع تركيز خاص على التحولات السياسية والاجتماعية بعد ثورة 2011. أعماله، مثل “تاريخ الزمن الراهن: عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر” (2012) و”دولة الهواة: سنتان من حكم الترويكا 2011 – 2013″ (2013)، تكشف عن رؤية نقدية حادة للإدارة السياسية في تونس، مع لغة تجذب القارئ العادي والمتخصص على حد سواء.

يتميز ليسير بأسلوبه السردي الذي يحول التاريخ إلى قصة حية، كما في روايته “الملانخولي” التي تعكس الأزمة النفسية والاجتماعية في تونس ما بعد الثورة، أو مجموعته القصصية “أضمامة نساء تونس”. كما أسهم في ترجمة أعمال مهمة مثل كتاب أندريه لوي “بدو الأمس، بدو اليوم في الجنوب التونسي”، مما يعكس إلمامه العميق بالثقافة العربية والغربية. في بورقيبة مؤرخا، يبرز ليسير كمؤرخ يرى التاريخ “جنسا أدبيا وتأويليا”، قادرا على تقديم تحليل عميق بلغة تجمع بين الشاعرية والدقة، مما يجعل كتابه عن بورقيبة عملا يستحق القراءة.

في كتابه، الصادر عن دار محمد علي الحامي العربية في 255 صفحة، يقدم ليسير بورقيبة ليس فقط كزعيم سياسي، بل كرجل مفتون بالتاريخ، يرى فيه أداة لصياغة أسطورته الشخصية. بورقيبة، الذي قاد تونس إلى الاستقلال في 1956، لم يكتف بصنع التاريخ، بل أراد أن يكتبه بنفسه.

الكتاب يقدم بورقيبة كشخصية معقدة: زعيم عبقري، حكاء موهوب، لكنه إنسان سقط في فخ الذاتية وهوس السلطة

يصف الباحث هذا الهوس ببراعة، مشيرا إلى سعي بورقيبة ليكون “المصدر الوحيد” لرواية الحركة الوطنية التونسية. من خلال محاضراته التسع الشهيرة في معهد الصحافة وكليات الحقوق في تونس وصفاقس والمنستير، حول بورقيبة التاريخ إلى مسرح حيث كان هو البطل الرئيسي، يروي قصة النضال ضد الاستعمار الفرنسي بلغة عاطفية ومؤثرة.

يكشف المؤلف عن مفارقة رائعة: بورقيبة بدأ حياته السياسية في السجن بشارع 9 أبريل وهو يقرأ عن الحروب الصليبية، وأنهى أيامه في قصر قرطاج يتحدث عن نفس الموضوع في مجالس السمر. هذه المفارقة ليست صدفة، بل تعكس علاقة بورقيبة العميقة بالتاريخ كوسيلة لفهم الحاضر وتشكيل المستقبل. كان يرى نفسه امتدادا لأبطال التاريخ، من صلاح الدين إلى قادة الحركات الوطنية، وأراد أن يُخلّد اسمه في سجلات الأمة.

لقب “الحكاء الأكبر”، الذي أطلقه ليسير على بورقيبة مستوحى من لقبه الشهير “المجاهد الأكبر”، يعكس قدرة الزعيم على نسج روايات تأسر الجماهير. في محاضراته، لم يكن بورقيبة يقدم مجرد توثيق للأحداث، بل كان يعيد صياغتها لتتماشى مع رؤيته، متجاهلا أحيانا أدوار قادة آخرين مثل صالح بن يوسف أو النقابيين. هذه الذاتية، كما يحلل ليسير، هي ما جعل بورقيبة مؤرخا مميزا ولكنه مثير للجدل. كان يختار بعناية ما يرويه وما يتجاهله، ليضمن أن تبقى صورته كزعيم لا تشوبها شائبة.

ليسير، بأسلوبه السردي الممتع، يبرز هذه القدرة ببراعة. فهو لا يكتفي بتوثيق محاضرات بورقيبة، بل يحلل كيف حولها إلى عروض مسرحية تجمع بين العاطفة والتحليل. يصف ليسير هذه المحاضرات كأنها “ملحمة”، حيث كان بورقيبة يتقمص دور الراوي الذي يجعل التاريخ حيا، يتحدث عن نضالات الحزب الدستوري، المواجهات مع الاستعمار، ودوره الشخصي كبطل لا يُضاهى.

هوس الديمومة

فتحي ليسير يؤكد موهبته الفريدة في مزج التحليل التاريخي العميق بلغة سردية ممتعة، بعيدة عن جفاف الأكاديمية
فتحي ليسير يؤكد موهبته الفريدة في مزج التحليل التاريخي العميق بلغة سردية ممتعة، بعيدة عن جفاف الأكاديمية

لكن ليسير لا يكتفي بتمجيد بورقيبة، بل يقدم نقدا متوازنا. في الفصل الأخير من الكتاب، يتناول “هوس الديمومة” الذي أصاب بورقيبة، تلك الرغبة في البقاء في السلطة إلى الأبد، حيث اندمجت ديمومة الحياة مع ديمومة الحكم. هذا الهوس، كما يوضح ليسير، قاد بورقيبة إلى “غواية الكرسي”، حيث أصر على البقاء رئيسا حتى أطيح به في 1987. ما يميز بورقيبة، حسب ليسير، هو أن هوسه بالسلطة كان مرتبطا بتمثله للزمن والتاريخ. لم يكن يريد الحكم فقط، بل أراد أن يكون الراوي الوحيد لقصة تونس، ليضمن خلود صورته.

هنا يبرز إبداع ليسير كمؤرخ. بدلا من الحكم على بورقيبة، يقدم تحليلا دقيقا يعترف بعبقرية الزعيم وفي الوقت نفسه يكشف عن عيوبه. يشير ليسير إلى أن سعي بورقيبة للهيمنة على الرواية التاريخية جعل تاريخ الحركة الوطنية يعكس رؤيته الشخصية أكثر من الحقيقة المطلقة، مما قلل أحيانا من أدوار قادة آخرين.

ما يجعل كتاب “بورقيبة مؤرخا” مميزا هو قدرة ليسير على الجمع بين صرامة البحث وسلاسة السرد، فهو كمؤرخ، يعتمد مؤلفه على وثائق دقيقة وتحليل عميق، لكنه يكتب بلغة تجذب القارئ كما لو كان يروي قصة. هذا الأسلوب يتجلى في أعماله الأخرى، مثل دولة الهواة، حيث انتقد بجرأة فشل الحكومات التونسية بعد الثورة، أو خليفة بن عسكر، الذي وثّق جهاد الأمازيغ ضد الاحتلال الإيطالي في ليبيا. في هذا الكتاب، ينجح ليسير في إعادة تقديم بورقيبة كشخصية معقدة: زعيم عبقري، حكاء موهوب، لكنه أيضا إنسان سقط في فخ الذاتية وهوس السلطة.

إسهامات ليسير لا تقتصر على الكتابة التاريخية. كمترجم، أثرى المكتبة العربية بترجمات مثل كتاب أرنولد توينبي عن نظريات المعرفة التاريخية، وككاتب أدبي، عكس في الملانخولي الأزمات النفسية والاجتماعية في تونس ما بعد 2011. هذه الرؤية متعددة الأبعاد تجعل ليسير الشخصية المثالية لتفكيك أسطورة بورقيبة، لأنه يمتلك الحساسية التاريخية والأدبية لفهم الزعيم ورؤيته.

كتاب فتحي ليسير “بورقيبة مؤرخا” هو أكثر من دراسة تاريخية، إنه لقاء بين حكاء عظيم ومؤرخ مبدع. بورقيبة، بمحاضراته وهوسه بالتاريخ، حاول أن يكون الصوت الوحيد لرواية تونس، لكنه لم ينجح تماما، لأن التاريخ، كما يذكرنا ليسير، لا يكتبه شخص واحد. وليسير، بأسلوبه السردي وتحليله النقدي، يقدم لنا بورقيبة كما لم نعرفه من قبل: زعيما عظيما، حكاء موهوبا، لكنه أيضا إنسان أُغوِي بالسلطة وخلود الزمن.

في النهاية، يتركنا الكتاب مع سؤال: هل كان بورقيبة حقا “الحكاء الأكبر”، أم أن فتحي ليسير، بقلمه البارع وتحليله العميق، هو من يستحق هذا اللقب؟ ربما تكون القصة الحقيقية لتونس مزيجا من رواية بورقيبة العاطفية وتحليل ليسير الناقد، تروي معا حكاية أمة تسعى لفهم ماضيها واستشراف مستقبلها.

12