"طلال.. تاريخ تقرأه الأجيال".. بانوراما ستة عقود من العطاء الإنساني والفكري
لم يكن الأمير طلال بن عبدالعزيز آل سعود شخصا مهموما بالسياسة فقط، وإنما مهموما بدرجة أكبر بالإنسان، بكيف يترك بصمته في تنمية الفكر وتحويل أفكاره إلى مشاريع إنسانية ترتقي بالمجتمعات، وكان ذا أثر كبير في الثقافة العربية وفي العمل الإنساني، وهو ما استعرضته مكتبة الإسكندرية في معرض يحتفي بسيرة الأمير الراحل بحضور شخصيات عرفته عن قرب وشهدت له بفرادة التجربة.
اختتمت مكتبة الإسكندرية يوم 9 سبتمبر الجاري فعاليات النسخة السادسة من معرض “طلال.. تاريخ تقرأه الأجيال“، والذي امتد على مدار ثلاثة أيام وشكّل مناسبة ثقافية وإنسانية بارزة للاحتفاء بمسيرة الأمير الراحل طلال بن عبدالعزيز آل سعود، رائد التنمية والعمل الخيري العربي.
تزامنت النسخة السادسة مع اليوم الدولي للعمل الخيري، حيث جمعت بين البُعد التوثيقي والبُعد الفكري عبر معرض ضخم يضم 11 جناحًا ومقتنيات وصورا نادرة، جنبا إلى جنب مع جلسات فكرية وحوارية شاركت فيها نخبة من الشخصيات العامة والتمثيل الدبلوماسي والحكومي والأكاديمي والفني، ما جعلها تظاهرة استثنائية في محبة الأمير الراحل.
رسائل وفاء واعتزاز
جاء الافتتاح في السابع من سبتمبر بحضور الأمير عبدالعزيز بن طلال، والدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية، وحضرالدكتور حسام عثمان، نائب الوزير لشؤون الابتكار والذكاء الاصطناعي والبحث العلمي نيابة عن وزير التعليم العالي الدكتور محمد أيمن عاشور وزير التعليم العالي، والسفير محمد صالح العجيلي نائب الأمين العام لجامعة الدول العربية، والفريق أحمد خالد محافظ الإسكندرية، والدكتورة جاكلين عازر محافظ البحيرة، إلى جانب شخصيات دبلوماسية وثقافية.
في كلمته الافتتاحية، أكد الدكتور أحمد زايد؛ أن الأمير طلال “واحد من القامات العربية النادرة التي امتلكت رؤية متكاملة للتنمية، فلم يكتفِ بالخطاب ولا بالشعارات، بل أسس مؤسسات ستبقى شاهدة على عطائه لعقود مقبلة.” وأضاف “حين نحتفل اليوم بمسيرته، فإننا لا نوثق لشخصية فردية بقدر ما نستلهم نموذجًا عربيًا في تحويل الحلم إلى مؤسسة والفكرة إلى مشروع.”
أما الأمير عبدالعزيز بن طلال، الذي بدا متأثرًا بأجواء الاحتفاء، فقد استهل كلمته بتوجيه الشكر للرئيس عبدالفتاح السيسي على دعمه المتواصل لمبادرات التنمية، قائلاً “أتيت ومعي روح طلال إلى المكان الذي أحبّه… الإسكندرية التي طالما ارتبط بها قلبه. لم يكن والدي أميرًا للإنسانية وحسب، بل كان أبًا لكل طفل وامرأة ومحتاج في عالمنا العربي.” وأردف “نحن اليوم لا نروي قصته، بل نقدّم للأجيال خارطة طريق للعطاء.”
وفي كلمته، شدد وزير التعليم العالي الدكتور محمد أيمن عاشور على أن “الأمير طلال كان يؤمن بأن التعليم هو المفتاح الحقيقي للتنمية، وما الجامعة العربية المفتوحة التي أسسها إلا دليل على ذلك الإيمان.” وأضاف أن مصر تفخر بشراكتها الممتدة مع مؤسساته، معربًا عن تطلعها لتعميق التعاون في السنوات القادمة.

من جهته، اعتبر السفير محمد صالح العجيلي أن مسيرة الأمير طلال “واحدة من أبرز التجارب العربية في جعل التنمية المستدامة واقعًا ملموسًا، وليس مجرد شعار تتداوله المؤتمرات،” مؤكدًا أن جامعة الدول العربية ترى في المعرض “رسالة وفاء وذاكرة حيّة لمشروع عربي متكامل.”
وقد أشار الفريق أحمد خالد محافظ الإسكندرية في كلمته إلى أن المعرض “رسالة وفاء تؤكد أن التاريخ يُصنع بالعطاء والإبداع،” مشددًا على أن استضافة المكتبة لهذا الحدث “تؤكد مكانة الإسكندرية كحاضنة للذاكرة العربية ومركز للحوار الثقافي.”
وقد تخلل الافتتاح تكريم السفيرة هيفاء أبوغزالة، الأمين العام المساعد السابق لجامعة الدول العربية، تقديرًا لإسهاماتها في مجال التنمية والعمل الاجتماعي، كما كرمت مكتبة الإسكندرية التي تسلّم درعها الدكتور زايد اعترافا بدورها في احتضان الفعالية.
التنمية نهج مؤسسي
شهد اليوم الثاني جلسة فكرية بعنوان “الأمير طلال والتنمية المستدامة”، شاركت فيها نخبة من المتخصصين. وأكد الدكتور أحمد زايد أن الأمير طلال لم يكتفِ بالتنظير، بل ترجم فكره إلى كيانات مؤسسية مثل المجلس العربي للطفولة والتنمية، والبرنامج العربي لمكافحة الفقر، والجامعة العربية المفتوحة. وقال “الأمير طلال كان يؤمن أن الأفراد يرحلون، لكن المؤسسات تبقى لتخدم الأجيال المقبلة.”
أما الدكتور حسن البيلاوي فاعتبر أن “الأمير طلال كان نموذجًا للمفكر التنويري الذي جمع بين الجرأة في الطرح والانفتاح على الآخر،” مضيفًا أنه كان يوازن بين الأصالة والحداثة دون أن يقع في فخ التبعية.
وشددت السفيرة هيفاء أبوغزالة على أن التنمية المستدامة “باتت شرطًا وجوديًا لبقاء الدول،” داعية إلى إنشاء مرصد عربي يرصد مدى التزام الحكومات والمؤسسات بتحقيق أهداف التنمية.
وقدمت الدكتورة هدى البكر قراءة معمقة لرؤية الأمير، مشيرة إلى أنه كان من أوائل القادة العرب الذين أدركوا أن المجتمع المدني ليس خصمًا للدولة بل شريك أساسي لها. فيما أوضح الباحث سامح فوزي أن فكر الأمير طلال “استند إلى ثلاثة مرتكزات: العدالة بين الأجيال، والانفتاح على العالم، وربط التنمية بالديمقراطية والحقوق.”
يسرا.. صوت الفن
الجلسة التي لاقت أكبر تفاعل جماهيري كانت “طلال.. سيرة ومسيرة”، والتي ركزت على الجانب الإنساني للأمير طلال. وقد خطفت الفنانة الكبيرة يسرا الأضواء بحضورها وكلماتها المؤثرة، إذ روت ذكرياتها مع الراحل مؤكدة أنه كان صديقًا مقربًا لها ووقف بجانبها في أصعب اللحظات. وقالت “الأمير طلال كان يؤمن بالفن كقوة ناعمة تُسهم في بناء الوعي والارتقاء بالإنسان. كان يرى أن الثقافة والفن جناحان للتنمية لا يقلان أهمية عن الاقتصاد والسياسة.”
وأضافت “مسيرة الأمير طلال تستحق أن تُجسّد على الشاشة في فيلم وثائقي أو عمل درامي يوثق تجربته للأجيال، ليس لأنه أمير فقط، بل لأنه إنسان ترك بصمته على كل من عرفه.” واقتُرحت بالفعل مبادرات فنية لتوثيق سيرته ضمن أعمال مشتركة بين مؤسسات ثقافية وإعلامية عربية.
شارك في الجلسة أيضًا الدكتورة منال إبراهيم، التي روت تجربتها الممتدة معه على مدار أربعة عقود، مشيرة إلى دعمه المستمر للمرأة وتعليمه لبناته، فيما قدّم الدكتور عبداللطيف الحميد قراءة فكرية لشخصيته متأثرة بالتنوير الغربي وفولتير خصوصًا. واعتبر الكاتب فتحي محمود أن علاقته بمصر كانت علاقة وجدانية وثقافية عميقة، بينما وصفت الدكتورة فيان فاروق الأمير طلال بأنه “أب روحي” لم يتوقف عن تشجيعها طوال مسيرتها.
بروتوكول تعاون
في اليوم الثالث، شهدت المكتبة توقيع بروتوكول تعاون مع الجامعة العربية المفتوحة التي أسسها الأمير طلال، بحضور الأمير عبدالعزيز بن طلال والدكتور محمد الزكري؛ رئيس الجامعة العربية المفتوحة في الوطن العربي.
وقال الدكتور أحمد زايد إن البروتوكول يمثل امتدادًا للتعاون مع مؤسسات الأمير طلال، ويعكس التقاء أهداف مكتبة الإسكندرية مع ما تسعى الجامعة العربية المفتوحة إلى تحقيقه في مجالات التعليم والبحث والتنمية. فيما أكدت الدكتورة نرمين خضر، رئيسة الجامعة، على أن الاتفاقية “ستفتح آفاقًا جديدة للتعاون في نشر العلم ودعم الطلبة والباحثين.”
◙ النسخة السادسة لم تكن مجرد احتفاء بذكرى أمير رحل، بل كانت مناسبة لصياغة ذاكرة جماعية حول معنى التنمية والعمل الخيري في العالم العربي
واختتمت الفعاليات بجلسة نقاشية حول “رؤية الأمير طلال في التعليم والتمكين”، ترأسها الأمير عبدالعزيز بن طلال. وأكد خلالها الدكتور مفيد شهاب؛ وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأسبق وعضو مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، أن الأمير طلال “أدرك منذ وقت مبكر أن التعليم هو البوابة الوحيدة للنهضة،” فيما أشار الدكتور محمد الزكري أن الجامعة العربية المفتوحة “ترجمت حلمه في إتاحة التعليم للجميع بلا قيود.” وقد أكد الدكتور محمود الخشن نائب رئيس جامعة الإسكندرية الأسبق في كلمته على أن التعليم “قاطرة التنمية،” داعيًا إلى إعادة هيكلة المناهج لتلبية احتياجات سوق العمل.
واختتم الأمير عبدالعزيز الجلسة بالتأكيد أنه “لا تمكين بلا تعليم ولا تعليم بلا تمكين،” مشيرًا إلى أن مشروع والده “سيظل مستمرًا كمنارة للأجيال.”
ذاكرة تُحكى للأجيال
على مدار الأيام الثلاثة، شهدت أجنحة المعرض إقبالًا كبيرًا من طلاب الجامعات وأسر الإسكندرية وزوار المكتبة، الذين أعربوا عن انبهارهم بحجم الوثائق والمقتنيات المعروضة. وقد التقط العديد منهم صورًا أمام الجناح الخاص بعلاقته بمصر، فيما عبّر بعض الحضور عن رغبتهم في تنظيم المعرض سنويًا ليبقى شاهدًا على العطاء العربي. وقالت إحدى الزائرات “شعرنا ونحن نتجول بين أجنحة المعرض أننا نقرأ كتابًا حيًا عن تاريخ التنمية العربية.”
وفي ختام المعرض، بدا واضحًا أن النسخة السادسة لم تكن مجرد احتفاء بذكرى أمير رحل، بل كانت مناسبة لصياغة ذاكرة جماعية حول معنى التنمية والعمل الخيري في العالم العربي، وتذكيرًا بأن المؤسسات الراسخة قادرة على أن تحمل الرسالة جيلا بعد جيل.