زاديج وابن فطومة بطلان أدبيان يبحثان عن المعنى والعدالة
يبقى المثير في الأدب تلك الرحلة التي يخوضها بقارئه إلى دواخل النفس البشرية من جهة وإلى مجاهل الحياة والتقاطعات والبحث عن الذات والمعنى الوجودي والعدالة من جهة أخرى. قد تتكرر هذه الرحلات ولكن لكل منها مسافتها وجمالياتها وأسئلتها التي تولدها من بعضها البعض. وهذا ما ينطبق على عملين أدبيين ساحرين لنجيب محفوظ وفولتير.
حين قرأت زاديج لفولتير بترجمة طه حسين وقرأت مقدمة عميد الأدب العربي للرواية كان حماسي كبيرا أن أجد رواية تأخذني إلى نفس الرحلة ولو بشكل مختلف، حتى قرأت رحلة ابن فطومة لنجيب محفوظ، حينها شعرت بخيوط عدة تترابط في ذهني تجمع بين الروايتين حينا وتفرقهما حينا آخر.
وجدت نفسي أقول: “إن الأدب الذي يبقى ويؤثر ليس هو الذي يسرد حكاية فحسب، بل ذاك الذي يحفر في أعماق الإنسان، يوقظ فيه أسئلته الدفينة، ويواجهه بما يخشاه ويطمح إليه في آن.” هو ذاك الأدب الذي لا يكَلّ أو يمَلّ من مطاردة الأسئلة الكبرى التي تهم كل إنسان منها: ما العدالة؟ وكيف تتحقق العدالة؟ هل يمكن للإنسان أن يهتدي إلى “الحقيقة”؟ ما حدود العقل في مواجهة العالم؟ هل الكمال موجود؟ وهل يمكن بلوغه؟ ما معنى الوجود؟ ما المصير؟ ما قيمة الحرية؟ ما قيمة العقل؟ هل العقل ينجي صاحبه فعلا؟ هل الرحلة أهم أم الوصول؟
تجربة إنسانية مشتركة
من هذا المنطلق، يبدو اللقاء بين “زاديج” لفولتير و”رحلة ابن فطومة” لنجيب محفوظ أكثر من مجرد مقارنة بين عملين أدبيين، بل هو تلاقي رحلتين إنسانيتين من قلب ثقافتين مختلفتين، ولكنهما تنطقان بالقلق الإنساني ذاته. فمن جهة، زاديج الباحث عن العقل في زمن يمتلئ بالجنون، ومن جهة أخرى، قنديل ابن فطومة الحالم بالكمال في عالم مفكك ومفتوح على كل الاحتمالات.

ومع أن فولتير كتب روايته في القرن الثامن عشر في ذروة عصر التنوير، ومحفوظ كتب روايته في أواخر القرن العشرين في خضم أزمة الهوية العربية، فإنني لم أشعر بحاجز زمني أو ثقافي بينهما، بل وجدت نفسي في صميم تجربة إنسانية مشتركة، يتنقل عبرها بين عوالم متعددة، ويتأمل مع البطلين في أعماق النفس، وأين تقع الحقيقة، وما هي إمكانيات النجاة.
لفهم أي عمل أدبي بعمق، لا يمكن تجاهل السياق التاريخي والفلسفي الذي وُلد فيه. فولتير كتب “زاديج” في لحظة فارقة من التاريخ الأوروبي، حيث كانت أوروبا تتململ من سطوة الكنيسة، وتتهيأ للانتقال من قرون الظلام إلى نور العقل والتفكير النقدي. لم يكن زاديج في رواية فولتير مجرد شخصية أدبية، بل تجسيدًا لما يمكن أن يكون عليه الإنسان إذا تحرر من الخرافة، وإذا استخدم عقله في فهم العالم، لا في تبرير ظلمه.
من اللحظة الأولى، يشعر القارئ أن فولتير لا يريد فقط أن يحكي حكاية، بل أن يطرح رؤية، أن يشكك في الثوابت، أن يسخر من المقدس حين يتحول إلى أداة للقمع. بابل في الرواية ليست موقعًا جغرافيًا فقط، بل صورة ساخرة من مجتمع يعاقب على الفضيلة ويكافئ الحماقة، يجعل من فعل الخير جريمة إذا تعارض مع مصالح السلطة، ويُعلي من الجهل بوصفه ضمانة للاستقرار، وكأن ما طرحه فولتير في روايته تلك هو ما نعيشه الآن، فهي رواية ليست قاصرة على زمنها فقط.
أما نجيب محفوظ، فقد كتب “رحلة ابن فطومة” في فترة زمنية ترضخ المنطقة العربية تحت وطأة الانكسار، بعد هزائم حلم القومية العربية، وبعد اتفاقية كامب ديفيد التي أحدثت شرخا قويا في الوحدة العربية، وتبدد الطموحات الكبرى التي حملتها أجيال ما بعد الاستقلال. في هذا السياق، لم يلجأ محفوظ إلى الرواية السياسية المباشرة، بل اختار الحكاية الرمزية، بما تحمله من قدرة على الإيحاء والتأويل والانفتاح على أكثر من مستوى.
البطل، قنديل ابن فطومة، لا يبدأ رحلته من موقع القوة أو الوعي الكامل، بل من شعور بالضيق، من رغبة في الخروج من فضاء مغلق إلى أفق مفتوح، باحثًا عن “دار الكمال”، لا كمكان جغرافي، بل كمفهوم، كحلم، كاحتمال. محفوظ، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، يجيد اللعب على الخيط الرفيع بين الواقعي والرمزي، بين الحكاية الصوفية والأسئلة الفكرية، ويمنح بطل روايته مسارًا لا ينتهي بإجابات، بل بوعي جديد بأن الكمال الحقيقي ليس نقطة نهاية، بل وعيًا يتحول ويتجدد، كلما انكشف شيء، غاب شيء آخر.
رحلة بطلين
هكذا، يقوم العملان على بنية الرحلة، ولكن الرحلة ليست مجرد تنقّل في المكان، بل سلوك لطريق يتقاطع فيه الخارجي بالداخلي، الواقعي بالرمزي، والتجربة بالفكرة. زاديج، في تنقلاته بين بابل وبلاد فارس ومصر، يصطدم في كل محطة بمفارقة، يواجه نموذجًا من البشر أو من المؤسسات يسلّط الضوء على اختلال ما: ملك يقتل الأبرياء طمعًا في رضا الآلهة، قاضٍ يعاقب منقذًا ويكافئ ظالمًا، مجتمع يرى في الشجاعة تهورًا وفي الحكمة خطرًا.
فولتير هنا لا يكتب ليرضي أحدًا، بل يسخر، يضحك، ويكشف فظائع العالم المغلّف بأسماء براقة ولامعة. أما قنديل، فإن رحلته تمر عبر سبع “دور”، كل منها تمثل نظامًا للحياة أو تصورًا للوجود: دار الإيمان، دار العلم، دار الحرب، دار الحب، دار الحرية، دار النظام، وأخيرًا دار الكمال.
كل دار تعده بشيء وتخذله في شيء آخر، وكل تجربة تفتح عينيه على وجه من أوجه الحقيقة، ولكنها لا تمنحه الطمأنينة الكاملة، بل تزيده عطشًا لفهم أوسع. محفوظ يجعل من هذه الرحلة ليست مجرد عبور من مكان إلى آخر، بل كشفا مستمرا لأوهام البطل، وتفكيك لتصوّراته المسبقة، ودفع له نحو سؤال ذاته بدلا من الاكتفاء بالحكمة المنقولة.
ومع أن زاديج يبدو واثقًا من عقله، مؤمنًا بمنطق الأشياء، فإن الواقع الذي يواجهه يسخر من هذا المنطق مرارًا. كل محاولة لفعل الخير تؤول إلى نتيجة مؤلمة، وكل موقف يتوخّى فيه الحكمة يُفسَّر على نحو يضرّه. فولتير، هنا، يوجّه طعناته بمهارة إلى مجتمع يرفع شعارات الفضيلة وهو يغرق في النفاق.
يسير زاديج في عالم يُعاقَب فيه العقل كلما حاول أن يفهم أو ينجو، وتبدو العدالة فيه معلَّقة بحبل المصالح، تُشدّ حيث يشاء الأقوياء، وحيث الأقوياء ينجون بفسادهم، والضعفاء يُسحقون بصمتهم أو طيبتهم. هذا التوتر بين العقل والواقع، بين المنطقي والمفروض، هو ما يمنح الرواية تلك الحيوية، ويجعل القارئ يعيش مفارقة لا تهدأ: هل العقل أداة خلاص، أم لعنة تُبعد صاحبها عن الناس؟ وهل يمكن للعدل أن يتحقق، أم أنه مجرد فكرة مثالية يُضحّى بها دائمًا أمام ضرورات الحكم والسلطة؟

على الجانب الآخر، لا يقلّ قنديل ابن فطومة حيرة عن زاديج، وإنْ بدا أكثر صمتًا وأقل جدلا. يخرج من بلاده حائرًا، مدفوعًا برغبة داخلية غامضة، لا يعرف مكنونها تمامًا، سوى أنها تدفعه للسير نحو المجهول، نحو دار الكمال. لكنه، بخلاف زاديج، لا يواجه المفارقة بحجج عقلية، بل يعيشها كمن يسير في حلم طويل.
محفوظ يتجنّب اللغة المباشرة، ويختار أن يبني الرواية على مجاز طويل، تتداخل فيه الواقعية مع الحكاية الصوفية. قنديل لا ينقضّ على العالم بسخرية، بل يمرّ به بحساسية، يرصد، يتأمل، يتألم، ويواصل طريقه. وإذا كان زاديج يُسقط مع كل موقف قناعًا عن وجه الحضارة الغربية، فإن قنديل يحاول في كل دار أن يفهم، لا أن يدين، يتأمل النظام والناس والتجربة، لكنه يخرج في النهاية محمّلًا بخيبة هادئة، خيبة العارف الذي اكتشف أن الطريق أطول مما ظن، وأن لا نموذج يحتكر الصواب.
يتلاقى البطلان في طبيعتهما المتسائلة، وفي افتقادهما للإجابات الجاهزة. كلاهما لا يرتضي بما هو كائن، ويبحث عن ما ينبغي أن يكون. ولكن الفرق الجوهري يكمن في طريقة المواجهة: زاديج يخوض صراعًا مع مجتمع يضطهد العقل، أما قنديل، فيبدو كمن يخوض صراعًا مع نفسه، مع سعيه إلى المثالي، ووعيه المتزايد بأن كل نظام يحمل نقصه داخله، وأن الكمال حلم لا يمكن تجسيده في الواقع.
فولتير يجعل من السخرية وسيلة لكشف الزيف، بينما محفوظ يلجأ إلى الرمز والتأمل. في “زاديج”، يُصاب البطل ويُسجن ويُنفى، لكن كل تجربة تُكسبه وعيًا متقدمًا، حتى يعود في النهاية إلى بابل حاكما متوجًا بالحكمة والمرأة التي أحبها. أما قنديل، فإنه لا يعود، بل يواصل السير، نحو دار لم يرها أحد، وبهذا تظل رحلته مفتوحة على الغياب أكثر من الحضور، على السؤال أكثر من الجواب.
والمرأة، في كلتا الروايتين، ليست مجرد شخص أو دور سردي، بل هي جوهر التجربة كلها. “أستارتي” في “زاديج” ليست فقط حبيبة يفتقدها، بل رمز للعدل والجمال والوفاء، تُفقد وتُستعاد، وكأن وجودها هو علامة على اتزان العالم أو اضطرابه. كلما غابت، غاب الاتزان، وكلما عادت، عاد النظام.
زاديج لا يرتاح حتى تعود إليه، وكأن خلاصه الروحي لا يكتمل بدونها. وفي “رحلة ابن فطومة”، تحضر نور كأول حب، كاختيار شخصي يُصادره المجتمع، وكأنها رمز للحرية الأولى التي ضاعت، للحياة التي حُرم منها البطل تحت سلطة التقاليد. حب نور لم يكن عابرًا، بل حدثًا يغيّر المسار، ويدفع قنديل إلى الرحيل. هي الدافع إلى الرحلة، كما هي طيف يرافقه دون أن يعود إليه، لأنها لا تنتمي إلى الديار التي يمر بها، بل إلى ذاته الأولى، التي تركها حين قرر أن يبدأ البحث.
الزمن في الروايتين ليس خطًّا مستقيمًا، بل هو زمن دائري أو طبقي، تتكرر فيه التجارب بأشكال مختلفة، وتتكشف فيه الأسئلة لا مرة واحدة، بل على مراحل. فولتير يجعل من التكرار وسيلة لتثبيت المفارقة: البطل يُعاقب في كل مرة، رغم حسن نواياه، مما يجعل القارئ أمام مفارقة تتجدد باستمرار: لماذا يُعاقب الخير؟ ولماذا ينجو الشرير؟ أما محفوظ، فإن كل “دار” في الرواية تمثل طبقة من التجربة، يكشف فيها القارئ والبطل معًا عن جانب من الحقيقة، ولكن دون أن تكتمل الصورة. الزمن لا يقود إلى نهاية، بل إلى وعي متجدد بعدم اكتمال أي شيء.
وعلى مستوى الراوي، ثمة فارق جوهري كذلك. فولتير يتدخل كليًا، يسخر، يعلّق، يوجّه القارئ نحو تأويل معيّن، بل أحيانًا يتحدث بلسان العقل الجمعي الذي يريد تغييره. راويه فاعل، مسيطر، يعرف إلى أين يقود القصة، ولا يترك القارئ في حالة لبس. على النقيض من ذلك، نجيب محفوظ يجعل من الراوي ظلًا خفيفًا، ينسحب إلى الخلف، ويترك قنديل يروي حكايته كمن لا يعرف ما ينتظره. السرد هنا لا يوجه، بل يُنصت، يسمح للتجربة بأن تتكلم، ويعطي القارئ مساحة للتأمل، وربما للضياع الجميل في الاحتمالات.
وفي خلفية العملين، تلوح مسألة العدالة بوصفها الهمّ الأكبر. فولتير يرى أن العدالة غائبة لأن العقل مقموع، وأن تحرير الإنسان لا يتم إلا بتحرير تفكيره. نقده لرجال الدين، للقضاة، للملوك، ليس رفضًا للدين أو السلطة أو القانون، بل لسوء استخدامهم، لتحولهم إلى أدوات قمع بدل أن يكونوا مصادر إصلاح. محفوظ، من جهته، لا يبحث عن العدالة بمعناها المطلق، بل كحالة تناغم بين الإنسان وذاته، وبين الفرد والعالم.
العدالة، لديه، لا تتحقق في نظام واحد، ولا في دار معينة، بل في وعي البطل بحدوده، في قبوله بعدم الكمال، وفي قدرته على الاستمرار في البحث رغم ذلك.
البحث عن الإنسان
حين نصل إلى نهاية الروايتين، فإن الفارق لا يقل عمقًا: في “زاديج”، هناك نهاية واضحة، يعود فيها البطل إلى محبوبته، ويحكم بابل بالحكمة التي اكتسبها من ألمه. هي نهاية قد توحي بانتصار العقل في النهاية، وبأن العدل، رغم كل شيء، ممكن التحقيق. أما في “رحلة ابن فطومة”، فإن النهاية مفتوحة، لا يعود البطل إلى الديار، ولا يلتقي محبوبته، ولا يدخل دار الكمال، بل يواصل السير، كأن الهدف ليس الوصول، بل الرحلة ذاتها، كأن المعنى ليس في النهاية، بل في السير الدائم نحوها.
اللافت أن فولتير اختار أن يضع بطله في الشرق، وأن يسير به عبر مدن شرقية، رغم أنه يكتب من قلب أوروبا، وكأن الشرق هو المكان الأسطوري الذي يمكن فيه للعقل أن يواجه اللاعقل. بينما محفوظ، وهو ابن الشرق، يجعل بطله يتنقل في دور تحمل ملامح ثقافات مختلفة، دون أن يمنح لأيٍّ منها تفوقًا أخلاقيًا.
كلا الكاتبين، إذن، يستخدم الآخر – سواء كان جغرافيًا أو فكريًا – ليعكس ذاته، ويعيد التفكير في مجتمعه. فولتير يكتب عن الغرب عبر حكاية شرقية، ومحفوظ يفكك الشرق من خلال رحلة تنفتح على كل العالم.
وفي النهاية، فإن ما يجمع “زاديج” و”رحلة ابن فطومة” لا يتوقف عند البناء أو الموضوع، بل يتجذر في روحهما العميقة: كلاهما بحث عن الإنسان، عن الحقيقة، عن المعنى. كلاهما يقدّم بطلًا يسير، لا لأنه يعرف الطريق، بل لأنه لا يستطيع أن يبقى في مكانه. كلاهما يجعل من الأدب معملًا لتفكيك الأسطورة، وبناء السؤال، والتأمل في هشاشة الإنسان حين يحاول أن يكون حرًا في عالم لا يحب الأحرار.
الزمن في الروايتين ليس خطًّا مستقيمًا، بل هو زمن دائري أو طبقي، تتكرر فيه التجارب بأشكال مختلفة، وتتكشف فيه الأسئلة لا مرة واحدة، بل على مراحل