سماء المشرق بلا غطاء.. من التالي

هذه الجرأة لم تولد في فراغ. فإسرائيل منذ عقود تتعامل مع محيطها كأرض مباحة لم تجد من يردعها بل على العكس وجدت احتضانًا ودعمًا يبدأ من واشنطن ولا ينتهي عند العواصم الأوروبية.
السبت 2025/09/13
المشرق مسرح مفتوح للاعتداءات

سماء المشرق باتت بلا غطاء. من غزة المحاصرة إلى بيروت ودمشق، وصولًا إلى الدوحة، لا سماء ولا أرض تبدو خارج مدى اليد الإسرائيلية. الأمس القريب حمل رسالة صاخبة: استهداف قادة من حماس في قلب قطر. لم يكن ذلك مجرد عملية عسكرية أو ضربة استخباراتية، بل إعلان صريح أن إسرائيل ترى نفسها فوق الحدود والقوانين واحترام الدول، وأنها وحدها المسموح لها أن تحدد أين تبدأ السيادة وأين تنتهي. كأنها تقول: لا مكان آمنا، لا في غزة ولا في الشرق الأوسط ولا في العالم… إلا تحت شروطنا.

إن هدف إسرائيل في القضاء على حماس، من أصغر عنصر فيها إلى أعلى قادتها، ليس سرًا، بل أمر معلن ومكرر في أجنداتها. لكن هل يبرر هذا الهدف أن تتحول عواصم المنطقة إلى مسرح عمليات مفتوح؟ هل تُشرعن السياسة الإسرائيلية ومصلحتها استباحة أيّ أرض تختارها لتصفية حساباتها؟ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خرج منذ اللحظة الأولى ليقول بوضوح “نحن وحدنا من يتحمل المسؤولية.” الرسالة ليست موجهة للفلسطينيين وحدهم، بل للعالم “لنرَ من منكم سيقف في طريق تحقيق أهدافنا.” والسؤال: من يقف؟

هذه الجرأة لم تولد في فراغ. فإسرائيل، منذ عقود، تتعامل مع محيطها كأرض مباحة. لم تجد من يردعها، بل على العكس، وجدت احتضانًا ودعمًا يبدأ من واشنطن ولا ينتهي عند العواصم الأوروبية. أما القوى الأخرى، من روسيا إلى الصين والهند، فتكتفي بالصمت. العالم بأسره يتصرف كأنه “ميت”، كأن ما يحدث لا يعنيه. القضية الفلسطينية لم تعد قضية فلسطينية خالصة، فهي منذ زمن تعدّت حدودها، وأصبحت جزءًا من معادلة إقليمية ودولية يتأثر بها الجميع. الفلسطيني قد يبدو نقطة البداية والنهاية، لكن التداعيات والفاتورة يشارك فيها الجميع.

سماء المشرق بلا غطاء، نعم. لكن نتمنى ألاّ تكون إلى الأبد بلا صوت… لأن، بحسب معطيات الواقع الحالي، السؤال سيبقى مفتوحًا: من التالي؟

سوريا المنهكة من حرب طويلة، ولبنان العالق بين الانهيار والشلل، والعراق الذي أُعيد عقودًا إلى الوراء… كلها أمثلة على دول جُرّدت من معناها كدول حقيقية. لم تعد الحدود تحمي، ولا السيادة قائمة، ولا السياسة الوطنية قادرة على فرض نفسها. مواردها مستنزفة، شعوبها مرهقة، وأراضيها مكشوفة أمام اختراقات متكررة. إسرائيل تتحرك وسط هذه الفراغات، مدعومة بغطاء سياسي وعسكري واستخباراتي غربي، فتملأ المشهد بسطوة الأمر الواقع.

في هذا المشهد، المشرق بأكمله تحوّل إلى فراغ جيوسياسي، من حدود منهارة إلى اقتصاد هش وصراعات داخلية متجددة تُبقي هذه الدول في حالة عجز دائم. والنتيجة؟ أرض مفتوحة أمام إسرائيل لتبسط هيمنتها وتفرض أجندتها.

لكن استهداف قطر يحمل معنى أبعد ويتجاوز السياق التقليدي. لم يعد الأمر مقتصرًا على حدود مشتعلة أو دول ساقطة في الفوضى. الاعتداء على الدوحة، رغم كل حسابات استضافة قادة حماس، هو إشارة أن لا أحد بمنأى. الدولة التي طالما قدّمت نفسها كوجه للاستقرار والاستثمار، وجدت نفسها فجأة في قلب لعبة التصفيات. والمعنى خطير: فإذا كانت قطر مكشوفة، فأين الأمان إذن؟ من يضمن الاستثمار والمستقبل للأفراد إذا كانت السماء نفسها متاحة للطائرات الإسرائيلية والاستخبارات العابرة للقارات؟ الأمر لم يعد شأنًا فلسطينيًا صرفًا، بل ضرب لمفهوم الأمن ذاته في المنطقة.

الأخطر أن ما تفعله إسرائيل اليوم يكرر نهج واشنطن بعد 11 سبتمبر 2001. آنذاك، اخترعت أميركا عالمًا ما قبل وما بعد، وأعادت ضبط إيقاع العالم على مصالحها. العراق دُمّر وأُعيد آلاف السنين إلى الوراء، سوريا نُكبت رغم اكتفائها الذاتي، أفغانستان أُعيدت إلى قرون مضت، وكل ذلك باسم “محاربة الإرهاب.” لكن سرعان ما تبيّن أنها لم تقتلع الإرهاب، بل هي من صنعت الفوضى وغذّت الإرهاب وأدامته. واليوم، تسير إسرائيل على نفس الخطى: تضع 7 أكتوبر في كل جملة مفيدة وغير مفيدة، كذريعة لتقول إنها تعيد رسم الخريطة وفق مقاساتها، وتفرض معايير جديدة حسب شروطها. من غزة والضفة إلى بيروت ودمشق، من بغداد إلى صنعاء، وصولًا إلى طهران وأخيرًا الدوحة… بالنسبة إلى إسرائيل، لا فرق.

إلى أين يقودنا قطار الجحيم هذا؟ في حال كان العالم يتشكل على مزاج إسرائيل وواشنطن، فالمشرق مكشوف للمزيد من الانهيار، والاستقرار مؤجل إلى إشعار آخر

نتنياهو وحكومته يعيشان جنون القوة وجنوح الجنون. يعتقدان أن الكلمة في “الإمبراطورية القادمة” هي لهما وحدهما. لكنهما يتجاهلان أن عالمًا يُدار بهذه اللغة لا يمكن أن يعيش فيه أحد. هذا ليس صراعًا مع الفلسطيني وحده، بل مع فكرة القوة المطلقة التي لا تعترف بسيادة ولا بقانون ولا باحترام أو عدالة أو حقوق شعوب. التاريخ أثبت أن هذه السياسات قد تمنح تفوقًا مؤقتًا، لكنها تزرع بذور انهيار أعمق. واشنطن نفسها دفعت ثمن إمبراطوريتها الأمنية، حين غرقت في مستنقعات العراق وأفغانستان. واليوم، إسرائيل تعيد التجربة بنسخة أكثر جموحًا.

من هنا، يصبح من الضروري أن تبحث دول المنطقة عن توازنات جديدة، أن تجد تحالفات مع قوى أخرى تضمن لها استقرارها وأمنها، وأن تخلق نقاط قوة مضادة لواشنطن وحلفائها. على دول المنطقة أن تفتح مجالًا للاتفاق فيما بينها سياسيًا واستخباراتيًا واقتصاديًا وأمنيًا. لأن المؤلم أن دائرة الصراعات وتعقيد الملفات تتزايد وتتفاقم، وربما تصبح أكثر كارثية على المنطقة. فيما المأساة الإنسانية في غزة تتجدد كل يوم، حتى بات هناك ميل للتطبيع مع المشهد والاعتياد عليه. وفي الجهة الأخرى، لبنان ما زال ملفه عالقًا وخطرًا على شفا صراعات داخلية عقيمة، وسوريا غارقة في فقدان الأمن وفي تشرذم الدولة وتعدد الفصائل، ما يزيد المخاوف من تفاقم الحروب.

اليوم، نحن على أعتاب نهاية عامين من حرب قيامة فتحت أبواب الجحيم في المنطقة على مصراعيها. ولا يبدو أن هناك نهاية أو من يحاول إغلاق هذه الأبواب. ومن يدفع الثمن؟ الأفراد العاديون، من أمنهم وأحلامهم ومالهم واستقرارهم وحياتهم. خلال عامين فقط، خمس عواصم جرى التعدي عليها، ومن يدري من التالي؟

لذا… إلى أين يقودنا قطار الجحيم هذا؟ في حال كان العالم يتشكل على مزاج إسرائيل وواشنطن، فالمشرق مكشوف للمزيد من الانهيار، والاستقرار مؤجل إلى إشعار آخر.

سماء المشرق بلا غطاء، نعم. لكن نتمنى ألاّ تكون إلى الأبد بلا صوت… لأن، بحسب معطيات الواقع الحالي، السؤال سيبقى مفتوحًا: من التالي؟

9