اعترافات رمزية.. الواقع تحسمه دبابات إسرائيل

هل سنقع مرة أخرى في فخ المسرحيات ونعود لنصدّق بريطانيا وفرنسا؟ يبدو أن هناك من يريد تحديث الخرائط الاستعمارية وإعادة توزيع المصالح واقتسام المشرق بين الدول الكبرى والشركات العملاقة.
الاثنين 2025/09/29
لندن تكشف الستار عن مسرحية هشّة

الاعترافات بالدولة الفلسطينية تتوالى، ورفع علم فلسطين فوق سفاراتها في لندن قد يبدو خطوة رمزية في محاولة لوقف الطوفان اليميني الإسرائيلي في الشرق الأوسط، ومنع ابتلاع حلم الدولة الفلسطينية إلى ما لا عودة. لكن، هل هذه الخطوات الرمزية ستفيد على المدى القصير أو البعيد؟ الآن أم لاحقًا؟ أم أنها ستتبدد كما تبددت حقوق أقليات أخرى وأحلامها في إقامة دول لم تكن أقل أهمية، بمنظورها، من الحلم الفلسطيني؟

الولايات المتحدة التي تُقدَّم اليوم كـ”حلم أميركي” لكل شاب ولكل إنسان، لم تولد من فراغ. بعد أكثر من 400 عام على بدء الاستيطان الأوروبي في القارة، قامت هذه الدولة على إبادة السكان الأصليين الذين سُمّوا بالاسم الاستعماري “الهنود الحمر”. وهكذا تحوّل مشروع استيطاني دموي إلى أسطورة “الحرية” و”النموذج”. فهل بعد قرون سيصبح الحلم الفلسطيني مجرد ذكرى منسية هو الآخر؟ مجرد ظلّ في ذاكرة التاريخ، كما تحوّلت قصص الشعوب الأصلية في أميركا إلى هوامش بعيدة عن المشهد؟

هل سيبقى هناك أمل، ولو خطوة أخيرة، لاسترجاع حقوق سبعة ملايين فلسطيني صامدين داخل أراضيهم؟ أم أن التجربة الأميركية ستتكرر في الشرق الأوسط من جديد؟ هل سيكون مصير الدولة الفلسطينية مجرد حلم وأساطير، وفكرة كانت يومًا، لتسقط ورقتها في مواجهة المشاكل التي لا تُعد ولا تُحصى؟ هل سيستسلم العالم ويطوي القضية كما طوى غيرها؟ أم أن هذه الاعترافات، عاجلًا أم آجلًا، ستترك أثرًا على مجمل القضية الفلسطينية وعلى الدول المحيطة بها من سوريا ولبنان والأردن ومصر والعراق، وربما أبعد من ذلك؟

ما نشهده اليوم لا يتعدى مسرحيات هشة، والتاريخ للمرة الألف يعيد نفسه بالهشاشة والسخرية ذاتها. والغريب أن هناك من يصدّق. فالاعترافات الرمزية لن تبني دولة، ولن تحمي إنسانًا، ما لم تتحول إلى فعل يغيّر موازين القوة

وربما يختلف المشهد الفلسطيني عن غيره، لأن المشروع الإسرائيلي لا يتوقف عند حدود، بل يعيد تعديل الجغرافيا، ويسعى باستمرار إلى توسيع أحلام السيطرة والنفوذ. وفي مفارقة مضحكة أقرب إلى العبث، تذكرني إسرائيل بمسلسل كرتوني قديم، “بينكي وبرين”، حيث يخطط فأر صغير كل ليلة للسيطرة على العالم.

لكن الواقع على الأرض أكثر مرارة ووضوحًا من أي خطاب أو علم يُرفع. التهجير مستمر، وتجارب الأسلحة والعمليات العسكرية تُجرَّب فيها تكتيكات التثبيت والسيطرة، والتجويع والعزل وسيلة ضغط مادي ونفسي تُستخدم لتقويض صمود السكان. والاعترافات الرمزية تُقابَل سريعًا بخطوات عملية من جهة الاحتلال: إغلاق المعابر، تشديد الحصار، وعزل الضفة الغربية سياسيًا واقتصاديًا. إغلاق معبر اللنبي مثلًا بدا في اللحظة نفسها أقوى رد عملي — إشارة إلى أن الحاكم على الأرض، والقوة السيادية التي تقرر مصير الناس والمنطقة، هي التي تصنع الواقع، وليس البيانات واللافتات.

وهذا بالضبط ما نحاول قوله: إذا لم تكن هناك أدوات ضغط حقيقية وفاعلة على إسرائيل، فمن سيمنعها من أن تفعل ما تراه مناسبًا على أرض الواقع؟ الجيش الإسرائيلي موجود بقوة في كل شبر من فلسطين، لذا بينما تكون القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية على الأرض بيد إسرائيل، يمكن لكل المساهمات الدولية والأوراق الأممية طيّها ورميها، أو كما يقال: “تُبلّ وتشرب مياهها”… ما لم تترافق مع قرار سياسي واضح يُغيّر ميزان القوى.

نعود إلى “البطولات” الأوروبية.. المفارقة أن لندن، عرابة المشروع الصهيوني وقيام الدولة الإسرائيلية، والتي ساهمت في تغيير وجه الشرق الأوسط مرارًا، تحاول اليوم رفع علم فلسطين والاعتراف الرمزي بها. لكن السؤال: هل أوقفت أي دعم سياسي أو عسكري أو استخباراتي أو اقتصادي لإسرائيل؟ إذا كان الجواب لا، فلا طائل من أعلامها المرفوعة، ولا من اعترافها الشفهي بأي دولة أو أي أرض.

هل سيبقى هناك أمل، ولو خطوة أخيرة، لاسترجاع حقوق سبعة ملايين فلسطيني صامدين داخل أراضيهم؟ أم أن التجربة الأميركية ستتكرر في الشرق الأوسط من جديد؟

الانتداب الذي حكم البلاد لعشرين عامًا في عشرينيات القرن الماضي، وقسّم المنطقة وفق أهوائه، واستعمر الأرض والإنسان والموارد، هو نفسه الذي دعم تأسيس الرواية الإسرائيلية طوال سبعة عقود. فكيف يمكن أن تغيّر كلماته الهشة اليوم مصير ملايين الفلسطينيين، بل ملايين الملايين من شعوب هذه المنطقة؟

هل سنقع مرة أخرى في فخ المسرحيات ونعود لنصدّق بريطانيا وفرنسا؟ بعد مئة عام على سايكس–بيكو وسان ريمو، يبدو أن هناك من يريد تحديث الخرائط الاستعمارية وإعادة توزيع المصالح، واقتسام المشرق بين الدول الكبرى والشركات العملاقة العسكرية، التكنولوجية، الاقتصادية، السيبرانية.. أما حقوق الشعوب وأحلامها فتبقى بالنسبة لهم مجرد “بدعة”.

فهل سنصدّق من صنعوا واقعًا جحيميًا لأجيال متعاقبة؟ ومن سيبني الدولة الفلسطينية؟ بريطانيا؟ فرنسا؟ أم أنها مجرد كلمة تُستعمل كأداة مناورة في مفاوضات حول ملفات أخرى؟ ربما لأن أوروبا ضاقت ذرعًا بتفرّد أميركا في الملفات العالمية، من فلسطين إلى سوريا ولبنان وأوكرانيا وغيرها. ربما هي أوراق ضغط بين خصوم ومنافسين عالميين، لكنها حتمًا ليست مشروعًا لبناء دولة.

كان بوسعهم على الأقل تحجيم جبروت إسرائيل، أو دعم الفلسطينيين سياسيًا، أو توفير حماية لهم، أو مساعدتهم في بناء حياة سياسية وانتخابات حقيقية يستطيعون من خلالها اختيار قادة يكترثون فعلًا لحقوق شعبهم ولحلم الدولة الذي يتبدد. لكن ذلك لم يحدث، ولن يحدث. فكيف سيتحوّل الانتداب فجأة إلى “ملاك”؟

إن ما نشهده اليوم لا يتعدى مسرحيات هشة، والتاريخ للمرة الألف يعيد نفسه بالهشاشة والسخرية ذاتها. والغريب أن هناك من يصدّق. فالاعترافات الرمزية لن تبني دولة، ولن تحمي إنسانًا، ما لم تتحول إلى فعل يغيّر موازين القوة، ويضع حدًا لواحدة من أطول المآسي في التاريخ المعاصر.

6