سردية التخوين الفلسطيني.. كيف تحولت المظلومية إلى ابتزاز سياسي
القضية الفلسطينية لم تعد حكرًا على الجغرافيا ولا على التاريخ. إنها قضية حية، لكنها أيضًا مشبعة بالتعقيد، محاطة بطبقات من الخطابات والشعارات والمصالح. وفي هذا الركام، تبرز ظاهرة متكررة وخطيرة: “توظيف التخوين كسلاح جاهز، لا يُوجَّه ضد العدو الإسرائيلي، بل يُشهر في وجه كل عربي يجرؤ على طرح أسئلة أو تقديم قراءة مغايرة.”
لقد بات التخوين عند بعض النخب الفلسطينية نمطا ممنهجا، يُستدعى كلما اقترب أحد من حدود المسكوت عنه. لا يتعلق الأمر بالدفاع عن القضية، بل بالدفاع عن السردية. وكل سردية محصَّنة من النقد تتحول عاجلاً أو آجلاً إلى أداة قمعية. وهكذا، لم يعد مسموحًا في بعض الأوساط طرح أسئلة عن جدوى الانقسام، أو عن ازدواجية الخطاب بين مقاومة معلنة وتنسيق أمني فعَّال، أو عن طبيعة العلاقات المستترة التي تربط بعض الفصائل بتل أبيب من جهة، وبطهران من جهة أخرى.
إن تحويل المظلومية إلى مشروع سياسي لا ينفي عدالة القضية، لكنه يسحب منها رصيدها الأخلاقي شيئا فشيئا. ففي كل مرة يُتَّهم فيها ناقد عربي بالخيانة أو “العمالة”، لمجرد أنه تجرأ على نقد الأداء السياسي الفلسطيني، تتآكل الثقة، ويزداد الشرخ. كيف يمكن لقضية تحرر أن تبني خطابًا لا يتحمل النقد؟ وكيف يمكن لنخبة تتغنى بحق العودة أن تنفي حق الآخرين في مراجعة المسار؟
◄ حين يدرك الجميع أن المظلومية وحدها لا تبني مستقبلا، يمكن حينئذ استعادة الخطاب من أيدي الذين اتخذوا من التخوين مهنة، ومن القضية واجهة لمشاريعهم الصغيرة
لقد نجح بعض الفلسطينيين، مع الأسف، في بناء منظومة خطابية مغلقة: مظلومية ثابتة لا تُراجَع، تحالفات متقلّبة لا تُفسَّر، ومواقف هجومية لا تُحاسَب. وبينما يمارس البعض تنسيقا أمنيا معلنا مع الاحتلال، لا يتردد في تخوين أنظمة عربية وقفت عقودا داعمة سياسيا وماليا وبشريا. هذه الازدواجية لا تهدد فقط مصداقية الخطاب الفلسطيني، بل تضعف التضامن العربي نفسه.
ولا يخفى أن هذا النهج يضر بالفلسطينيين قبل غيرهم. فحين يتحول الاختلاف العربي إلى “خيانة”، تُغلَق أبواب المراجعة، وتتراجع فرص الحلول الواقعية، ويُستبعد الحلفاء الطبيعيون. كما أن تكريس العداء مع العواصم العربية الكبرى، مقابل صمت مشبوه تجاه تفاهمات سرية أو علنية مع العدو، يعيد تعريف الأولويات بما يضر بالقضية.
نحن هنا لا ننكر حجم الظلم التاريخي الواقع على الشعب الفلسطيني، ولا نلغي مسؤولية الاحتلال، لكن الدفاع عن القضية لا يعني تبرئة السلوك، ولا يبرر احتكار الخطاب، ولا يعطي أحدًا الحق في تخوين المختلف. فعدالة القضية لا تعني عدالة كل من يتحدث باسمها.
إن الخروج من هذا المأزق يبدأ بإعادة الاعتراف بأن فلسطين ليست ملكًا لفصيل، ولا لسردية واحدة، وأن النقد العربي ليس عمالة، بل ضرورة. وحين يدرك الجميع أن المظلومية وحدها لا تبني مستقبلا، يمكن حينئذ استعادة الخطاب من أيدي الذين اتخذوا من التخوين مهنة، ومن القضية واجهة لمشاريعهم الصغيرة.