رسائل قمة شنغهاي

قمة شنغهاي الأخيرة استثمرت التوجه الأميركي نحو العزلة وسعت إلى رسم ملامح نظام عالمي جديد يُعد بمثابة ولادة ثانية للمنظمة بعد مرور نحو ربع قرن على انطلاقتها الأولى.
الثلاثاء 2025/09/09
من يضحك أخيرا

نشأت منظمة شنغهاي للتعاون في 15 يونيو 2001 بمبادرة من الصين، روسيا، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، وأوزبكستان، كنسخة موسعة من مجموعة شنغهاي الخمسة التي تأسست عام 1996، وكان هدفها الأساسي حل القضايا الحدودية بين الدول الأعضاء.

لم تُعر الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا بأهمية منظمة شنغهاي في بداياتها، نظرًا لأن الناتج المحلي الإجمالي للصين آنذاك لم يكن يتجاوز 1.3 تريليون دولار، في حين بلغ الناتج المحلي للولايات المتحدة في نفس العام نحو 11 تريليون دولار. لكن بحلول عام 2007، ارتفع الناتج الصيني إلى 3.5 تريليون دولار، ليعادل تقريبًا الناتج الألماني، بينما ارتفع الناتج الأميركي إلى 14.5 تريليون دولار. وفي عام 2025، من المتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى 20 تريليون دولار، وهو ما يُعد قفزة كبيرة، في حين يُتوقع أن يبلغ الناتج الأميركي نحو 30 تريليون دولار، والألماني حوالي 4.9 تريليون دولار. ووفقًا للتقديرات المستقبلية، فإن الصين ستصبح بحلول عام 2050 أكبر اقتصاد في العالم بنحو 58 تريليون دولار، تليها الهند بـ44 تريليون دولار، ثم الولايات المتحدة بـ34 تريليون دولار.

عندما أدركت الولايات المتحدة أن الصين لا تتفوق اقتصاديًا فحسب، بل بدأت تكتسب أرضية عسكرية أيضًا، اتجهت في عهد الرئيس بايدن إلى محاصرتها عبر تحالفات وشراكات مع الحلفاء في آسيا وأوروبا. كما عززت واشنطن الصناعة المحلية من خلال قانون الاستثمار في البنية التحتية، وخصصت تريليوني دولار لدعم الاستثمارات في الطاقة النظيفة، وتصنيع أشباه الموصلات، وتشكيل جبهة موحدة مع الحلفاء لفرض ضوابط تكنولوجية على الصين.

نتج عن هذه السياسات اتساع الفجوة النسبية بين الاقتصادين الأميركي والصيني لصالح الولايات المتحدة، حيث ارتفعت أسواق الأسهم الأميركية بنسبة تقارب 54 في المئة وفقًا لمؤشر ستاندرد آند بورز 500، بينما انخفض مؤشر شنغهاي شنتشن CSI 300 الصيني بأكثر من 30 في المئة. كما قاد بايدن تحالف “كواد” الذي يضم الولايات المتحدة، أستراليا، الهند، واليابان، في إطار تعزيز التعاون الأمني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

◄ قمة شنغهاي تقوض الرهان الأميركي على إحداث شرخ بين الصين وروسيا، أو استخدام التقارب مع موسكو كورقة ضغط ضد بكين، كما ظهر في قمة ألاسكا

وبالاستناد إلى نظرية “جون” التي تعتبر الاتحاد السوفييتي مثالًا كلاسيكيًا لإستراتيجية الاحتواء التي أثبتت فعاليتها، إلى جانب رؤية “جان مونيه” لمستقبل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ساهمت في إخماد الحروب وتعزيز نشوء الاتحاد الأوروبي، فإن الولايات المتحدة سعت إلى تطبيق نماذج مشابهة. إلا أن الرئيس ترامب، خلال فترة حكمه، استخدم سلطة الولايات المتحدة للضغط على الحلفاء، ما أدى إلى خسارة الهند كحليف لصالح منظمة شنغهاي.

تتأرجح الولايات المتحدة تاريخيًا بين النزعة الانعزالية والنزعة العولمية. فمنذ إعلان الرئيس وودرو ويلسون مبادئه الأربعة عشر عام 1918 بشأن النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الأولى، برزت النزعة العولمية، ومنها إنشاء عصبة الأمم. لكن الكونغرس الأميركي رفض الانضمام إليها، ما عكس ميولًا انعزالية، إذ يرى كثيرون أن الموقع الجغرافي للولايات المتحدة، وبعدها عن المحيطات، يمنحها مستوى عالٍ من الأمن الذاتي، خاصة بالنظر إلى حجمها الجغرافي وسوقها المحلي الكبير. وفي عهد ترامب، تجلى هذا الميل الانعزالي في فك ارتباط أميركا بالتحالفات الغربية، وإنهاء رؤيتها لدورها كحامية للنظام العالمي، إلى جانب تبني موقف مؤيد لروسيا.

قمة شنغهاي الأخيرة استثمرت هذا التوجه الأميركي نحو العزلة، وسعت إلى رسم ملامح نظام عالمي جديد، يُعد بمثابة ولادة ثانية للمنظمة بعد مرور نحو ربع قرن على انطلاقتها الأولى. وقد شكّل انتقال الهند إلى المعسكر المناهض للغرب الحدث الأبرز في هذا السياق. واعتمدت المنظمة إستراتيجية تنموية حتى عام 2035، تضم أكثر من نصف سكان العالم، وربع الإنتاج العالمي. كما قررت الصين التحول نحو مواجهة التهديدات الجديدة التي تمس أمن الدول الأعضاء، والعمل على تشكيل نظام حوكمة عالمي أكثر عدالة وعقلانية.

قمة شنغهاي تقوض الرهان الأميركي على إحداث شرخ بين الصين وروسيا، أو استخدام التقارب مع موسكو كورقة ضغط ضد بكين، كما ظهر في قمة ألاسكا. وهذا يعني أن منظمة شنغهاي قدمت للمجتمع الدولي نموذجًا جديدًا للحكم، يختلف عن نموذج الهيمنة الذي تمثله مجموعة السبع، والتي تحتفظ بهيكلية هرمية صارمة. لذلك، ينظر الغرب إلى منظمة شنغهاي باعتبارها تجمعًا للمناهضين للغرب، يلتفون حول الزعامة الصينية في محاولة لإعادة تشكيل النظام العالمي.

8