رئيس جمهورية بالإكراه
بدءًا من العهد الذي تأسس بالانقلاب العسكري الأول في العراق عام 1958، مرورًا بعهد صدام حسين، وانتهاءً برؤساء الجمهورية الذين جاء بهم نظام الحصص والتوافقات في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، لم تتوفر الفرصة للعراقيين لاختيار رئيسهم بالاقتراع المباشر الحر الذي يمنحه الشرعية ويؤكد أنه لم يأت بالإكراه.
كل الرؤساء الذين توالوا على الحكم في العهود الجمهورية الأولى 1958، والثانية 1963، والثالثة 1968، والرابعة 1979، فرضتهم قوة متمردة من الجيش، يقال إن أغلبها كان مدعومًا أو ممولًا من حكومات أو أجهزة مخابرات أجنبية، أوروبية أو أميركية أو عربية أو إسلامية مجاورة.
حتى رؤساء ما بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 جاؤوا على ظهر الدبابة الأميركية، ونصبهم دستور كتبه المنتصرون الأمريكيون والإيرانيون، بمشاركة وكلائهم العراقيين، بقيادة الحاكم الأمريكي بول بريمر، ومباركة المرجع الشيعي علي السيستاني.
أما الرئيس الوحيد الذي بزّ أقرانه السابقين واللاحقين، فهو صدام حسين. فقد أراد أولًا أن يتخلص من عقدة مجيئه بقوة السلاح، وثانيًا أن يستبق حملات خارجية تدعو لإسقاطه بحجة ديكتاتوريته، فاخترع فكرة الاستفتاء الشعبي الذي فاز فيه عام 1995 بنسبة 99.96% من الأصوات، ثم فاز فيه في تشرين الأول – أكتوبر 2002 ردًا على إعلان إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن عزمها غزو العراق لإسقاط نظامه.
الاستفتاء، خصوصا حين يلجأ إليه ديكتاتور كحافظ الأسد أو صدام حسين، لا علاقة له بالديمقراطية لا من قريب ولا من بعيد
يومها أعلن نائبه عزة الدوري، وهو أيضًا رئيس الهيئة العليا المشرفة على الاستفتاء، أن الرئيس صدام حسين حصل على نسبة 100% للتجديد له لولاية رئاسية جديدة من سبع سنوات، وأن نسبة المشاركة بلغت 100% من مجموع المقترعين البالغ عددهم حوالي 11.5 مليون ناخب.
ثم عقد المجلس الوطني العراقي (برلمان الرئيس) جلسة خاصة وصادق على هذه النتيجة، كما اجتمع مجلس قيادة الثورة برئاسة الرئيس نفسه فصادق أيضًا، ثم قام الرئيس الفائز بأداء اليمين الدستورية لتولي رئاسة جديدة لفترة سبع سنوات أخرى.
ويومها اعتبرت الولايات المتحدة أن الاستفتاء “غير جدي”. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض آري فليشر في مؤتمر صحفي: “استفتاء هذا اليوم ليس جديًا، إنه عملية تصويت غير جدية، ولا أحد يعيرها مصداقية حقيقية”.
وقال ناطق باسم وزارة الخارجية البريطانية: “لا يمكن حصول انتخابات حرة عندما يتوجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع مع علمهم بأن ثمة مرشحًا واحدًا لمنصب الرئيس، وعندما يكون هذا المرشح قد اعتاد على اغتيال معارضيه أو تعذيبهم، وحين تكون العقوبة التي يواجهونها في حال انتقاد هذا المرشح هي قطع اللسان”.
ورغم ذلك، وفي المحكمة التي قضت بإعدامه شنقًا حتى الموت عام 2006، ظل يكرر القول بأنه الرئيس الشرعي للعراق الفائز بإجماع الناخبين، وبأن القوة الوحيدة صاحبة القرار في تنحيته عن الرئاسة هي إرادة الشعب العراقي وحده.
وحقيقة الأمر أن الاستفتاء، خصوصًا حين يلجأ إليه ديكتاتور كحافظ الأسد أو صدام حسين، لا علاقة له بالديمقراطية لا من قريب ولا من بعيد.
مجيء الرئيس في 17 تموز 1968 كان بالغش والغدر والخديعة. ثم حدث تفرد حزب البعث بالحكم في 30 تموز من العام نفسه، أيضًا بالغش والغدر والخديعة
فحين لا يكون هناك مرشح آخر ضد الرئيس المتفرد بالحكم بقوة السلاح، وحين تكون المخابرات وأجهزة أمنه هي المنظمة والراعية والمشرفة، وهي التي تفرغ صناديق الانتخاب وتفرز أوراق الاقتراع، فإن المسألة لا يكون لها سوى معنى واحد: أنها لعبة مدبرة لتبرئة الحاكم من تهمة الانقلاب ومن الديكتاتورية.
وللعلم، فإن صدام حسين جاء إلى الحكم في 17 تموز – يوليو 1968 بعملية سطو منظم دون قتال، لم تكن لتنجح لولا موافقة حرس الرئيس عبد الرحمن محمد عارف، الذي عُيّن باختيار غير شرعي خلفًا لشقيقه عبد السلام محمد عارف، الذي جاء بدوره خلفًا لرئيس آخر غير شرعي هو الزعيم عبد الكريم قاسم.
ومعروفة تفاصيل الصفقة التي عقدها أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث أحمد حسن البكر مع قائد الحرس الجمهوري إبراهيم الداوود، وعبد الرزاق النايف نائب مدير المخابرات العسكرية، وسعدون غيدان آمر كتيبة دبابات القصر الجمهوري.
ولو لم يكن قائد الانقلاب الحقيقي، رئيس الجمهورية بعد ذلك، هو أحمد حسن البكر، ابن قرية العوجا ومن عشيرة ألبو ناصر، وابن عمومة خير الله طلفاح خال صدام حسين، لما وجد صدام الفرصة ليكون نائبًا لرئيس مجلس قيادة الثورة، ولما أُنيطت به إدارة أجهزة الأمن والمخابرات، ولما تمكن أخيرًا في العام 1979 من انتزاع الحكم من قائده ومعلمه وابن عمومته الرئيس البكر، ولما تخلص من أهم أعضاء القيادات العليا للحزب الذين كانوا يعارضون رئاسته للحزب والدولة.
يعني أن مجيء الرئيس في 17 تموز 1968 كان بالغش والغدر والخديعة. ثم حدث تفرد حزب البعث بالحكم في 30 تموز من العام نفسه، أيضًا بالغش والغدر والخديعة.
وتسلم صدام الحكم في تموز 1979 بانقلاب في قاعة الخلد، من نوع جديد ومبتكر، وبالغش والغدر والخديعة أيضًا.
ثم بعد كل هذا الفيلم السينمائي السيئ، كتابة وتمثيلًا وإخراجًا، ظل صدام يرفع صوته في المحكمة التي حكمت عليه بالإعدام شنقًا حتى الموت، معلنًا أنه الرئيس الشرعي المنتخب. وظل معجبون بهتافاته النارية: (يعيش الشعب، يسقط العملاء) يرددون أنه الرئيس الشرعي المنتخب، دون أن يتفكروا أو يعقلوا.