تجريديات ميسون علم الدين منجم لوني لاكتشاف الذات
ليس التجريد في اللوحات مجرد انفعال حركي ولوني، إنه مساحة للتأمل يصنعها وعي الفنان ولاوعيه معا، لتقديم مساحة يسرح خلالها المتلقي في عوالم المشاعر والفكرة في آن واحد، وهذا ما نجده ماثلا في أعمال الفنانة التشكيلية السورية ميسون علم الدين، التي تخلق من التجريد عوالم مؤثرة.
لم تكن الفنانة التشكيلية ميسون علم الدين ترغب في حصد الأضواء، إنها تدرك تماما أن أي محاولة اقتراب من أي ضوء كان، ومهما كانت درجة سطوعه، سيكون ثمنها موجعا، فروحها روح فراشة.
وقبل تحقيق أي حضور إبداعي لعملها، تلجأ الفنانة إلى خلق شكل من التوازي الذاتي مع العمل المنجز، بل تكاد تكون الجزء الفاعل في العمل، فهي حاضرة على امتداد كل مسافات لوحاتها، بينما تحتفي علاقاتها بالآخر، مؤسسة فكرتها على تعددية تشغيل مفهوم البحث، وهو ما قادها إلى التحولات التي سترافق تجربتها فيما بعد.
الأخضر والبرتقالي
تعيش ميسون علم الدين الفن وتتنفسه، اللوحة هي أكثر من مرآة لتعكس ما بدواخلها من هواجس وأفكار وتصورات جمالية. فهي تحيط بدقة بكل تفاصيل عملها الفني على امتداد عملية إنتاجه، ولهذا نجدها تستعين بمقولات معيارية، التي منها تُولَّد مفرداتها الفنية، تلك المفردات التي تؤسس لمشروعها الفني الجمالي القائم على ثنائية الفن في إطاره المصطلحي الخارج من دوائر ديناميكية، فيها تجد الفنانة كل بنيان صياغاتها الجديدة، وبين محاكاتها لهذا الفن بملامحه الدقيقة، والمستمدة من استجاباتها عبر إيجابيتها في المواجهة.
تدرك علم الدين جيدا أن محاولات التجلي تكمن في المضي في اتجاهات مؤثرة، قد تعود فيما بعد إلى ترتيب صياغة مفرداتها، لكنها تبقي على ذلك التواصل مع الأفق بازدهار حنيني يشعرك ببيئة لا يمكن إغلاق نوافذها.
للعالم الخارجي لديها نبض خاص في جعل الأخضر غازيا لجل أعمالها. ولكنها تتركه أحيانا، وهي من الحالات النادرة، وقد يكون انعطافا في تجربتها، خاصة في لجوئها إلى البرتقالي الحارق، الذي يشي بإضاءات ذات قيمة حسية غير محدودة، وقد تكون محصلة لقيم رمزية لقضايا كبيرة نائمة بين أضلعها. وقد يعود ذلك إلى الجذور المفروضة والمطروحة في منطق لا وعيها، وهذا قد يجعلنا نُعيد النظر في كل ما يحرك العمل فينا.
يحرك العمل الفني عند علم الدين تاريخ الذات، مرورا بتلك التبدلات المرافقة لسيرورة التكوينات في مستواها الإمتاعي المنفتح على الارتقاء في مستوى المقاييس الذهنية، إذ هدف إلى تطويع اللون في كشف رغائب الصوت المتمرد، وصولا إلى حالة فاعلة في امتياز عال لمستوى السياق الصاعد في الطبقة المزدهرة في كينونة العمل ووجوده. وهذا ما يؤكد امتلاك عملها لكل صفات التباين والتعدد، اللذين هما من لوازم الالتحام مع المتلقي.
حالة بحث دائم
يتعامد في لوحات ميسون علم الدين الزمان المتحول على المكان المتغير، ما يحقق القيمة الجمالية لعملها، كما تتلاعب بمفردات العمل، وعلى نحو أخص اللون، وذلك سعي من قبلها لخلق علاقات تراتبية بين عناصر لوحاتها التجريدية خاصة، لتتحول لوحاتها إلى سرد إبداعي تغلب عليه حيوية الغوص، ولو وفق منظور يرتبط جنبا إلى جنب بكل تلك التحولات الحتمية نحو غد غير واضح، وإن كان يجاور الفضاء المعياري بهامش كبير، عبر ثنائيات متصالحة حينا، ومتصارعة في أحيان أخرى.
كما أن ميسون تملك خاصية المكاشفة عبر البوح بهمومها المقدسة، أقصد بسردياتها المتناسية لا المنسية، وهذا ما يمنح عملها دلالات جمالية وقيما فنية تقطفها برهافتها الحسية العالية، فتسردها عبر تجريديات تكاد تتحول إلى منجم لوني يفيض بالمكونات التي تخضع في أداء معانيها لأنماط التركيب الفني الخاص بها، والذي يقوم على تعدد صوتها داخل حدود عملها على شكل توليف جمالي إبداعي، فيه كل إيقاعات العزف المنفرد على عتبات العمل، بالتوافق مع نواظم تعود بها إلى ذاكرة يفترض بها أن تكون حاملة كل علامات التنوع والغنى.
تجريديات الفنانة تفيض بكل مكوناتها وعناصرها بينما تخضع في أداء معانيها لأنماط التركيب الفني الخاص بها
كما تهتم الفنانة السورية بتوفير وسائل توحي بتساؤلات تحرك مواطن الاتساع في عملها، الاتساع الذي سيكون عموديا في أكثر الأحيان، وأفقيا في أحيان نادرة. فهي تمول بألوانها أدق الحالات التي قد توحي بالتعقيد من الوهلة الأولى، ولكن تأملها يكشف لنا عن نظام خاص بالفنانة، التي نتفق معها بأنها تحمل كل شروط الاعتراف بأنها مسؤولة، وبعمق، أمام نفسها ورؤيتها، على نحو يسمح لها بكشف التفاصيل المرغوب فيها، وغير المرغوبة أيضا.
مشروع ميسون علم الدين الفني ينشأ في تضاريس وبيئة صعبة، لا ييسر السير فيه غير بحثها المتواصل، وهي تقوم بتلخيصها الشديد لكل مؤشرات عمقها، تُعيد اكتشاف كل تلك العمليات بالقدرة على توفير سياق جمالي وفكري، سياق فيه الموازنة الدقيقة بين سردها اللوني، وبين قبضها للحالات المضمرة، ثم إطلاقها كمرادف لتلك الاستدلالات لمستقبل مشروعها، المبني على اكتشافات الذات وغاباتها. ولهذا تعيش حالة تواصل كبير في حالة بحث متواصل ودائم.
