أنس حاج قاسم يخط تجربته الحياتية انطلاقا من التراث
أنس حج قاسم فنان كردي مبدع يتميّز بأسلوبه المعاصر في الخط العربي، حيث يمزج بين الكلاسيكية والحداثة بإتقان، ينوع في الخطوط، ويختار من التراث الثقافي والديني ما يخط منه أشكالا دقيقة التكوين، إذ يُعرف بأعماله التي تجمع بين الدقة الجمالية والتكوينات الإبداعية، كما يستخدم أدوات تقليدية بروح متجددة، مما يمنح لوحاته طابعًا فريدًا وجذابًا.
نعم، منذ البدء دعونا نقر بأن الخط العربي بمنحنياته وزواياه ونقاطه ليس أشكالاً للكتابة والقراءة فقط، بل هو أشكال تندفع بقوة لتكوّن مشاهد بصرية تستحق التأمل الطويل، والإبحار فيها وفي عوالمها، ثم الغور في أعماقها لالتقاط ما تيسر لنا من لآلئها وكنوزها والاستمتاع بما تحمله من قيم جمالية ومعرفية، لتكوّن مشاهد بصرية لها كائناتها بعلاقاتها الخاصة مع الذات، مع بعضها البعض، عبر ارتباط وثيق ومتِين، وعبر بنية فكرية لها تعبيريتها الخاصة، ومناخاتها الخاصة، حيث تبدأ التساؤلات عن تجسيد الأشياء بمسمياتها، بصيغها المتعددة حتى لا تفقد معانيها، وبالتالي حضورها.
وعالم الخط العربي يقترب من عالم الرسم كنتيجة، كفن لكل منهما عالمه الداخلي الخاص به، وكلاهما يحاول الانتقال من طبيعة متأثرة إلى طبيعة مؤثرة، وبالتالي الوصول معاً إلى الموسيقى، وكأنهما يتفقان مع رأي شوبنهاور بوصفهما كائنين فنيين، فهو يقول بأن كل الأعمال الفنية تحاول الوصول إلى الموسيقى. إذاً فالأمر ممكن وقادر على البقاء والحياة لكليهما، فلا تهميش لأحدهما على حساب الآخر، فهما نهران يتدفقان من نبعين مختلفين، ويجريان في مجريين يلتقيان ويتقاطعان كثيرا، لكن يصبان في مصب واحد حيث التقاط الجمال وخلقه، ثم بثه في أروقة الحياة.
على هذا النحو، وللأهمية التي تحمل قيما معرفية وجمالية، استطاع الخط العربي، وفي وقت مبكر، أن يحجز لنفسه مساحة لا بأس بها في الفضاء التشكيلي، وتزداد هذه المساحة حين يتحول الفن إلى سلاح في أوطان تعيش الاحتلال والاستبداد، في أوطان تبحث عن حريتها، حينها الفنان يرسم بالكلمات دون أن يتنازل عن فنيته.
وجدنا ذلك كثيرا في المشهد البصري الفلسطيني، حتى كاد من الصعب أن نجد فناناً فلسطينياً لم يضمن شكلاً ما من العناصر النصية في عمله بطريقة أو بأخرى. فإن الفنانين البصريين الفلسطينيين غالباً ما استخدموا أدوات نصية أو أدبية، أو إحالات إلى مراجع أدبية في أعمالهم، أي أن عناصر الخط العربي لها أهميتها الكبرى في تشكّل الفن الفلسطيني على نحو عام، والمعاصر منه على نحو خاص. وهذا الأمر شائع في الغالب من جانب الفنانين لدى كل المجتمعات التي تعاني من الظلام، فهي إحدى الطرق في كيفية التخلص من الظلام والوصول إلى الضوء، وإثبات أن الفن مهما كان نوعه وهويته تبقى له مكانته ودوره الأهم في تبديد الغيوم، وبالتالي في شروق الشمس.
أسوق هذا الكلام كمقدمة عامة لأمهد لنفسي طريقا عليه وبه أمضي لأدق باب خطاط هادئ جداً، يشتغل بصمت كبير، بعيداً عن بهرجة العصر الزائفة، ولأخلق لنفسي مبرراً به أدخل إلى عوالمه. أتحدث هنا عن الفنان، الخطاط أنس حج قاسم، وقد يكون من المفيد أن نذكر هنا بأنه شاعر وكاتب، يكتب بلغته الأم الكردية، وله أكثر من عشرة كتب مطبوعة بين الشعر والرواية والنقد، فهو متعدد المواهب والاهتمامات، وله باع طويل في كل منها. ولكننا هنا سنقف عند تجربته في الخط العربي، وعلاقته المتينة معه، العلاقة المبنية والقائمة على الحب والشغف، وغالبا ما تكون مشبعة بأحاسيسه، لا من خلال كلمات متكررة، بل من خلال تركيبات تحمل محتوى تعبيريا بصريا ونصيا. ولندعه يسرد لنا بقلمه كيف ولدت علاقته مع الخط حتى ندرك منابع ذلك العشق الذي يعيشه معها.
موهبة مبكرة
يقول أنس: “بدأت موهبة الخط بالظهور عندي في بداية دراستي الإعدادية في مدينة الحسكة. أتذكر أن كل هوامش كتبي المدرسية كانت عبارة عن شخبطات وخطوط متنوعة، وكنت أيضا أتسلق على كرسي المعلم أثناء الاستراحة، أو الفرصة، أو صباحاً قبل قدومه، وأكتب بالحوّار والطباشير بألوانها المختلفة على السبورة. ثم اشتريت كتاباً لتعليم الخط العربي للخطاط هاشم البغدادي، وكنت أتدرب على الخطوط وأقلدها إلى أن صار الخط، وحبه يجري في دمي. فإن مر يوم دون أن أكتب وأخط فيه شيئاً أكون كمن أضاع شيئاً ثميناً. رغم أنني لم أتبع دورات تقوية للخط، إلا أنني كنت أتقدم بخطوات لكثرة ممارستي العملية لها على الورق والحيطان.”
منذ البدء، ومن الوهلة الأولى نلاحظ بشكل متزايد تلك التنوعات المختلفة في استخدامه للنص كعنصر أساسي، بل كعنصر وحيد في مجموعاته الفنية، كسطح وقوام معا، وهذا الأمر أصبح معلما شائعا من معالمه. فمن خلال مفردات وكلمات، ومع فضاءات من الرغبة تبدأ حالات من الاندماج والاقتراب من مشاهد تدمج بدورها علامات تجريدية تعبيرية بالخط اليدوي. فاستخدامه للنصوص المختلفة ما هي إلا ترجمة للأصوات، والحديث الدائر بينها، ففي إمكانه كفنان منتِج، ومعه المتلقي أن يصغيا معا إلى تلك العلاقات المشحونة بشدة، والتي تتجلى في كيفية استخداماته للغة بشكل جميل تحمل معرفتها في ذاتها، وهذه تمنحها أهميتها ضمن عناصر أعماله الفنية.
وفكرة استخدام أدوات شكلية على غرار سلسلته الطويلة بطريقة غير مألوفة، يمكننا معرفتها وتمييزها من خلال المحتوى والسياق، وكذلك من خلال الشكل، فالخصوصية في استخداماته في الغالب لحركات جمالية تبهر الروح والنفس قبل العين، يمكن اعتبارها تنويعات وتخطيطات مثيرة جداً للاهتمام، وتجسد رؤيته في الحياة، تلك الرؤية المفتوحة، فلا قيود مشددة عليها، بل مشرعة في اتجاهات لها أجنحتها المختلفة والتي تمضي جميعاً نحو الإنسان.
نعم، الخط العربي فن تشكيلي، يملك من الحروف المطواعة والمرنة الشيء الكبير، ما يمكن أن تمضي في الاتجاه الذي يبغيه الفنان. فهذه الحروف تمتلك من الحرية ما لا يمتلكه أي عنصر آخر من العناصر الفنية المعروفة، والفنان الحر والحق هو الذي يسيطر على تلك الحرية، حينها ستصبح بين ريشه كخاتم سليمان.
وأنس حج قاسم يملك من تلك الحرية الكثير، ويملك من السيطرة على حروفه لدرجة عالية. وثمة أهمية لكل ذلك، فهي تمنحه أوكسجينا مركزا يدفعه إلى المضي نحو مساحات هندسية منظمة، والتي تُبنى خطوطها حول نقاط مركزية تتصف بتماثل عالٍ تذكرنا بتلك التكوينات الهندسية التي يتوسطها دوائر مركزية بدورها في كثير من أعماله، وكأنه يشير إلى الهدف الذي يريد الوصول إليه بوصفه نقطة الصفر ومركز المنشأ وسرّة الكون (علامات الانفصال والاتصال في آن واحد).
تجريد تعبيري
ينطلق قاسم من تجربته الشخصية الفنية التي تمتد لسنوات طويلة كأحد أهم مساهماته في إطار تقديم رؤيته في أمور حياتية في أمكنة تشكل مركز الانتماء والصراع. فهو يتبنى مرجعيات بصرية متبلورة وفق نظريات جمالية متأثرة إلى حد ما بالأساليب المتداولة، ولهذا فأعماله تزخر بمعماريتها المنطلقة من رؤيته الخاصة من جهة، ومن جهة أخرى من تلك الأشكال الهندسية المركبة التي تجاهد كي تتحرر من الأنماط الهندسية التقليدية، لتشكيل ما هو أقرب إلى التجريد التعبيري الذي يبني مساحات حروفية حرة تماما، لا زوائد فيها ولا هوامش.
هو على يقين بأن اللغة بحروفها وخطوطها والتي يرسمها، ويخطها بأحاسيسه ومشاعره قبل أن يرسمها ويخطها بريشه وأصابعه، هي لغة واسعة وغنية للتفاعل والتواصل الإنساني مهما كانت تحمل من التجريد، لغة دقيقة بمكوناتها وتركيباتها قادرة أن تستكشف علاقتها بالواقع، تلك العلاقة وما تتضمنه من نقاء مطلق تتقاطع مع نقاء المنشأ ولحظة الولادة، رغم ما تهيمن عليها جوانب من التجريد. وتتنوع عناوين قاسم ومشاريعه الفنية المضمرة بإشارات بصرية لها قبتها الخاصة، ومساحاتها الخاصة.
وإذا كان الخط تعريفا: “هو الأثر الناتج من تحريك نقطة في مسار ما، أو هو تتابع مجموعة من النقاط المتجاورة” فإن الفنان هو الذي يدرك تماماً كيف يحرك تلك النقطة في مسار يرغبه هو، وما يمكن أن ينتجه لنا من عبارات مختلفة في أشكال يخلقها هو. فقاسم يستخدم على نحو متزايد كل متخيلاته، بتعدديتها، وما تطرحه من طرق في التفكير، وبالتالي في الخلق. وهذا يمنحه طاقة وطموحا، يتنفس هواءها لحظة بلحظة نحو إنجاز مشروعه بالقدر نفسه من النجاح من الناحية الفنية.
وأنس يثبت أنه قادر أن يقود ذلك المشروع نحو أمكنة يرسمها هو له، نحو أمكنة تليق به، مهما كانت التحديات الكثيرة التي يتعرض لها. فالأوامر لا تجدي، وحدها الأسئلة تستحق أن تعلن صراخها كي تمهد له الطريق. فالفن لا يحتاج أن يكون متعالياً كي يعبر الحدود، فهو كبير في كرمه وسخائه ويعطي المعنى والجمال والمتعة في كل تجوالاته، وقاسم يدرك ذلك تماما، وعليه يعزف معزوفاته الهادئة، أقصد أشكاله الساكنة بالإشارات والغارقة بالعلامات.
إنه فنان على مسافة غير ثابتة من نقاط المركز، من المحور، وبالتالي حركة دورانه حولها سيوحي إليه بأن رحلته إليها ستكون في أرجائها كلها، لا كسائح، بل كعاشق في استطاعته الكشف عن كل مفاتنها، وكل مفاتيحها دون أن يحتاج إلى فك رموزها التقليدية، التي تبدأ تضاريسها بمعنى من المعاني بتوفير تعليمات محسوسة قد تتدخل لا إراديا في تحديد اتجاه أقلامه وحركتها في الفضاء الخالي من المعالم.
مع ذلك، فهو لا يتجاهل تلك الجوانب البصرية التي تثير لديه بداية الإقلاع، وبالتالي تثير لديه اهتماماته بتقنيات الكتابة المختلفة. فالخط العربي ليس احتفالاً رومانسياً أو تقليدياً بالنسبة لقاسم، بقدر ما هو جهاز تقني، يمكن له أن ينتج الأشياء التي تم تصميمه لها ظاهرياً لوصفها بذاتها. وهذا يعكس منظوراً جمالياً داخل المفاهيم الجوهرية لهويته البصرية المهددة بالضياع والتلاشي. لكن إنتاجه لأعمال وأشكال بأسلوب منمق للغاية يعكس اهتمامه بكل ما يعزز لديه رحلته المستقبلية، إن كان في غياب المسافات، أو في إدراج أفكار ضمن بوتقته الخاصة.
هندسة دقيقة
أنس حج قاسم فطن جدا حين يكون في حرم الحالة الخلقية، أي حين يكون في مواجهة أدواته وفضاءاته يعيش عملية الخلق بأبعادها كلها. فالتجربة عنده ليست للتسويق، بل لطرح مكنوناته بلغة جمالية تكون الدواء لكل داء قد يعيشه. والأمر عنده أن يبقى متيقظا بأحاسيسه في مستوياتها المختلفة، وليبعد شبح الاستيلاء على طرقه وتفرعاتها. نعم، الأمر عنده دعم مشاعره بالشكل الذي يضيء دواخله، ويحافظ على هويته البصرية، الهوية المنفتحة على منابع كثيرة، تلك المنابع التي تجعله أكثر ثقة بقلمه، وبالتالي بنفسه. فسلّته مليئة بالمفاجآت المختبئة تحت غطائها، والرغبة عنيفة في كشف ذلك الغطاء لتندفع ما في داخلها إلى الخارج ببصيرة فنية عميقة، آخذا بعين الاعتبار وأصابعه كيفية التركيز على ما سيندفع إلى الخارج من أفكار وقيم معرفية وفق ترتيب أولوياتها وفاعليتها، فيختار ما يهمه فعلا، وليترك لدى متلقيه إحساسا بصريا ونفسيا جميلا ترافقه في متابعة وقراءة منتجه.
وبرؤية بانورامية على منتجه، سنجد بأنه يستفيض في اختياراته، فله باع جميل في مجمل أنواع الخط العربي، ولم يترك نوعاً منها إلا ومنح قلمه حرية الخوض فيها. فهو شغوف بالتجربة، شرب من الأنهار جميعاً، أضاء روحه، وروحنا، حتى يكاد وكأنه خيّم بينها جميعا، يلاعب بقلمه الكوفي، والنسخ، والديواني، والرقعي، والفارسي، والثلث.
وكان لخط الثلث حصة الأسد من منتجه، ورغم أن خط الثلث يعتبر من أصعب الخطوط، لكنه يعتبر في الوقت نفسه من أرقاها، لما لها من مواصفات تمنح الخطاط مجالات أوسع في الحركة والإبداع، فيها من الزخارف ما يساعد الفنان في الخروج لعمل أكثر جمالا.
وليس كل خطاط يجرؤ على العوم في هذا النوع من الخط، فهو يحتاج إلى خطاط محترف ومتقن لتلك النسب الهندسية التي يحتاجها، ولا شك أن قاسم كان لها، وكان يحمل تلك المواصفات، ولهذا كان هذا النوع الأقرب إلى روحه، يشتغل به بعشق وحب، ولهذا أنتج وأبدع، فكان ثمرة ذلك عشرات الأعمال التي خرج بها إلينا، زاوج فيها بين الخط والزخرفة، بين الجمال الهندسي والتعبير الروحي، آخذاً في الاعتبار دقة التفاصيل. وطالما الأحرف مرنة بين قلمه وبين أصابعه، فهو يذهب كما يشاء، في الاتجاه الذي يريد، يسمو بها علوا، أو ينزل بها في السهول، وهذا يحتم عليه تغيير أشكالها التي هي ثمار شجرته المخضرة دائماً.
ولا ينسى قاسم أبدا تلك العناصر الأساسية التي تظهر حرفيته، والتي يجب الحرص عليها في كل عمل يقوم بإنتاجه. فهو حريص على نظامه الهندسي بحرصه على النسب الدقيقة فيها، وبتناغم بين عناصرها جميعا، وهذا ما يخلق توازنا بصريا لعمله المنتج، مع حرصه التام على إضافة جرعة من مشاعره وروحانياته عليه. ولهذا يلد العمل الفني كقطعة من روحه، وبالتالي تستحق أن تكون لسان حاله، تعبر عن دواخله بصدق زائد. ومن المفيد أن نذكر أن جلّ اختيارات قاسم كانت من القرآن الكريم، وأبيات شعرية لشعراء معروفين، أو أقوال وحكم قالها الحكماء والكتاب، وكذلك من تلك التي يتم تداولها في الوسط الشعبي.