الهيمنة على المعادن النادرة.. البعد الخفي للصراع العالمي
تسيطر الصين حاليًا على ما يقرب من تسعة أعشار تجارة المعادن النادرة عالميًا، ما يجعل أيّ اعتماد أميركي على سلاسل التوريد الصينية عاملًا يرفع من القيمة الجيواقتصادية لبكين في معادلة التنافس، خاصة مع توسع حضورها الاقتصادي والجيوإستراتيجي عبر مبادرة الحزام والطريق، مستثمرة في البنى التحتية والموارد، وموقّعة اتفاقيات مع حكومات محلية تمتلك احتياطيات من هذه المعادن في آسيا مثل كازاخستان في آسيا الوسطى، وفي عدد من الدول الأفريقية.
تُعد المعادن النادرة مواد حيوية تدخل في صناعة التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك الطائرات والصواريخ وأشباه الموصلات والبطاريات. وهي مجموعة تضم سبعة عشر عنصرًا كيميائيًا، ورغم تسميتها “نادرة” فإنها ليست كذلك من حيث الوفرة في القشرة الأرضية، وإنما بسبب صعوبة استخراجها وتنقيتها بكميات اقتصادية. ويُعد الليثيوم والكوبالت والمنغنيز والنيكل من أبرز هذه المعادن التي يشهد الطلب عليها نموًا متسارعًا، خاصة في صناعة البطاريات والسيارات الكهربائية وتقنيات الطاقة المتجددة.
قفز إنتاج المعادن الأرضية النادرة عالميًا خلال العقد الأخير بنسبة كبيرة، إذ ارتفع من نحو مئة ألف طن إلى ما يقارب ثلاثة أضعاف ذلك. وحققت الصين وحدها الحصة الأكبر من هذا الإنتاج، تلتها الولايات المتحدة ثم أستراليا، وجاءت بعدها بورما وتايلاند وفيتنام، فيما حلت الهند وروسيا والبرازيل في المراتب التالية، مع إنتاج أقل بكثير. أما بقية الدول مجتمعة فتنتج كميات محدودة وفق بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية. وتصف وزارة الطاقة الأميركية هذه المعادن بأنها “معادن التكنولوجيا” التي أصبحت من الموارد الإستراتيجية التي تتنافس عليها الاقتصادات الكبرى.
تستخدم الصين ورقة المعادن النادرة في حربها التجارية مع الولايات المتحدة، إذ جاء معظم واردات واشنطن خلال الأعوام الأخيرة من بكين، بما في ذلك النسبة الساحقة من مركبات الإيتريوم، الذي تعتمد الولايات المتحدة على استيراده بالكامل، ويُستخدم في المحفزات والسيراميك والإلكترونيات والليزر والمعادن والفسفور. وتأتي ماليزيا واليابان وإستونيا في مراتب تالية كمصادر أقل حجمًا.
◄ المعادن النادرة أصبحت نقطة التقاء بين التكنولوجيا والاقتصاد والسياسة، ومحور نقاش عالمي حول الأمن الصناعي والاستدامة والتنافس على النفوذ في الأسواق
وقد علّقت الصين شحنات المغنطيسات الضرورية، مهددة بخنق إمدادات المكونات الأساسية لشركات صناعة السيارات والطائرات وأشباه الموصلات والمقاولين العسكريين حول العالم، ريثما تصوغ الحكومة الصينية نظامًا تنظيميًا جديدًا. وبمجرد تطبيقه، يمكن أن يمنع وصول الإمدادات إلى شركات معينة، بما في ذلك المقاولون العسكريون الأميركيون، بشكل دائم.
أثارت رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في توقيع اتفاق مع أوكرانيا لاستغلال المعادن النادرة على أراضيها اهتمامًا واسعًا، إذ تسيطر أوكرانيا على أكثر من مئة موقع من رواسب المعادن الحيوية، وتضم نحو عشرين معدنًا من قائمة الخمسين معدنًا التي تصنفها هيئة المسح الجيولوجي الأميركية بأنها بالغة الأهمية. من بين هذه المعادن التيتانيوم، الذي تمثل أوكرانيا نسبة مهمة من إنتاجه العالمي، والليثيوم الذي تستخدمه البطاريات، والمنغنيز المستخدم في صناعة الصلب، والزركونيوم المستخدم في قضبان الوقود النووي والماس الصناعي، فضلًا عن الغرافيت الذي يدخل في تصنيع الصلب والمحركات الكهربائية، إضافة إلى أكبر احتياطي من اليورانيوم في أوروبا.
تسعى الولايات المتحدة إلى تقليص اعتمادها على الصين، التي يمكن أن تستخدم هذه الورقة ضدها، وقد قيدت بكين بالفعل صادراتها إلى واشنطن في ظل أزمة الرسوم الجمركية. وخلال الحرب، سيطرت روسيا على معظم الموارد المعدنية في أوكرانيا، خاصة في مناطق دونيتسك ولوغانسك الخاضعتين لسيطرتها، ومنطقة دنيبرو القريبة من خط المواجهة، حيث توجد رواسب الليثيوم والسترونشيوم والزركونيوم. كما تتفاوض واشنطن مع الكونغو، الغنية بالكوبالت والليثيوم واليورانيوم، لتوقيع اتفاقية ضخمة بشأن هذه المعادن، إضافة إلى اهتمامها بكازاخستان التي تمتلك أكبر احتياطي من المعادن النادرة، ما يمنحها قيمة جيواقتصادية عالية في معادلة التنافس.
وقد سبقت الصين الولايات المتحدة في هذا المجال، إذ وقّعت اتفاقيات كبيرة مع كازاخستان لاستغلال المعادن النادرة خلال زيارة الرئيس الصيني لها في منتصف العقد الحالي، مستثمرة الفراغ الأميركي بعد الانسحاب من أفغانستان، الذي قلل من الأهمية الإستراتيجية المباشرة لآسيا الوسطى في منظور واشنطن. وفي هذا السياق، فإن هيمنة الصين على هذه المعادن في آسيا الوسطى ليست مجرد تفوق اقتصادي، بل ورقة نفوذ جيوسياسية تمكّنها من فرض شروطها في ملفات أوسع، واضعة كازاخستان في قلب منافسة صامتة بين القوى الكبرى.
يسعى كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تقليص هيمنة الصين على إمدادات سلاسل التوريد للمعادن النادرة، لكن هذا الطموح يبدو هشًا بعد أن ضمنت بكين صفقات إستراتيجية تتيح لها الوصول إلى هذه المعادن لعقود مقبلة، ما يمنحها أداة ضغط جيوسياسية على خصومها. وفي المقابل، بدأت كازاخستان وأوزبكستان اتباع سياسة خارجية أكثر براغماتية، تقوم على موازنة النفوذ بين القوى الكبرى بدل الاصطفاف الكامل مع طرف واحد، وهو ما يُعرف بالحياد الإيجابي أو النشط.
لقد امتد تأثير هذه المعادن ليصبح محورًا رئيسيًا في التنافس الجيوسياسي والاقتصادي بين القوى الكبرى، وبرزت في السنوات الأخيرة في سياق الحرب التجارية المتجددة بين أميركا والصين. وأصبحت المعادن النادرة نقطة التقاء بين التكنولوجيا والاقتصاد والسياسة، ومحور نقاش عالمي حول الأمن الصناعي والاستدامة والتنافس على النفوذ في الأسواق. فهي لم تعد مجرد مواد خام، بل أوراق قوة تتحكم بها الدول في صراع النفوذ العالمي.
وتسعى الولايات المتحدة وأوروبا إلى أن يعكس ذلك تحولًا إستراتيجيًا في سلاسل التوريد العالمية، إذ تشير تقديرات المفوضية الأوروبية إلى أن احتياجات الاتحاد الأوروبي من معادن مثل الليثيوم ستتضاعف مرات عديدة بحلول نهاية العقد الحالي. هذه التباينات أعادت إلى الأذهان أزمة النزاع بين بكين وطوكيو قبل أكثر من عقد، حين ارتفع سعر أكسيد الديسبروسيوم بشكل هائل خلال فترة وجيزة، ما دفع الأسواق الغربية إلى الإسراع في تنويع مصادرها.