المقاومة التي استنزفت لبنان
طالما عرف حزب الله نفسه بصفته حدّ السيف في مواجهة إسرائيل، رافضا التنازل عن 13 نقطة حدودية، ورأى في ذلك انتصارًا للكرامة. في بداية حرب 7 أكتوبر، قدّمت إسرائيل عبر المبعوثين الأميركيين سلسلة من التنازلات المحدودة حول الخط الأزرق، شملت بعض القرى والمواقع الحدودية، بهدف تهدئة التوتر وفتح قناة تفاوضية. كانت التنازلات رمزية، لكنها وفّرت فرصة سياسية لحزب الله لتحقيق مكاسب. إلا أن الحزب، المنجرف خلف شعاراته، رفض استثمار هذه الفرصة، فأضاع ما كان يمكن أن يكون نصرًا ملموسًا للبنان.
اليوم، بعد 7 أكتوبر، وبعد أن انكسرت معادلات القوة في الإقليم، لم يبقَ من تلك الصلابة سوى خمس نقاط حدودية معلّقة، كأن المقاومة نفسها تقلّصت إلى رقم. وما كان يومًا رمزًا للكرامة صار ورقة على طاولة الحساب.. إسرائيل تنازلت، والحزب أضاع؛ الحزب رفع السيف، فانقلب السيف على حامله.
لكن المفارقة الأشد أنّ الحزب الذي بنى خطابه على العداء الأبدي للسعودية، صار يرسل رسائل مواربة إلى الرياض. ليست رسائل قوّة، بل استنجاد. ومع ذلك، لا ينبغي أن تُقرأ بمعزل عن السياق الأكبر: زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، إلى المملكة، التي شكّلت إشارة ناعمة بأن طهران تبحث عن متنفس. رسالة الحزب إلى السعودية ليست مبادرة ذاتية، بل صدى لذلك السياق.
الجواب لن يكتبه حزب الله في خطاباته، بل ستكتبه الخرائط الجديدة التي لا ترسمها البنادق فقط، بل موازين القوى حين تعيد توزيع نفسها
الحزب ليس ندًا للسعودية؛ هي مركز ثقل في الإقليم، تنسج معادلات النفط والأمن والاقتصاد، فيما الحزب مجرد ذراع مأزوم لمشروع إيراني يتداعى. لا يمكن وضع الطرفين في كفّة واحدة: الدولة تصنع التاريخ، بينما الكيان المسلح يستهلكه حتى العدم. إن الحزب في رسائله لا يخاطب السعودية بقدر ما يكشف إفلاس إيران؛ فحين تضطر طهران أن تُرسل إشارات عبر وكلائها، فهذا يعني أن مشروعها نفسه بات عالقًا في عنق الزجاجة.
الأكثر مأساوية أن هذا الانحدار يجرّ لبنان كله معه. الدولة صارت رهينة، والاقتصاد يتهاوى، والمجتمع يتفتت. المقاومة التي وُلدت ضد إسرائيل تحوّلت إلى حرب استنزاف ضد الداخل. لبنان يُستعمل كورقة في صراع إقليمي لا يملك فيه كلمة.
هنا يتجلّى البُعد الشيطاني للتاريخ: حزب الله الذي عادى السعودية صار يطلبها، الحزب الذي قاوم إسرائيل ضيّع تنازلاتها، الحزب الذي قدّم نفسه كدرع لإيران صار عبئًا عليها. انقلبت كل المعادلات، وصارت المقاومة عبئًا على راعيها قبل خصومها.
السؤال إذن لم يعد عن “13 نقطة أو 5 نقاط”، بل عن مصير مشروع بأكمله: هل ينهار حزب الله في بيروت قبل أن تنكسر إيران في طهران، أم أن سقوطه مجرد تمهيد لانهيار المشروع الشيعي السياسي في المنطقة؟ وهل السعودية، وقد صارت مركز الثقل الجديد، مستعدة لأن تلتقط خيوط هذا السقوط لتعيد نسج الشرق الأوسط، أم أنها ستترك الحزب وإيران يسقطان تحت وزنهما الذاتي ليتحوّلا إلى عبرة تاريخية؟
الجواب لن يكتبه حزب الله في خطاباته، بل ستكتبه الخرائط الجديدة التي لا ترسمها البنادق فقط، بل موازين القوى حين تعيد توزيع نفسها.