العهد الوجداني: الطاعة بين الوعي والتوظيف السياسي
جادلتُ أحدهم قبل فترة حول حدود الطاعة لمن يُلزم الشرع أو العرف طاعتهم: هل هي مطلقة أم مشروطة؟ تأتي أهمية هذا السؤال من زاويتين: الأولى تتعلق بتعريف مفهوم الطاعة الذي أمرنا الله به، والثانية تتعلق بحدود الطاعة، عندما تتحول (طاعة الله ورسوله وأولي الأمر) إلى طاعة الآخرين بنفس الدرجة. والسؤال المحيّر: حين يتلقى الأفراد أوامر فيها ظلم للآخرين، فهل يجب طاعتها أم التمرد عليها؟
لنبدأ بالنموذج القرآني الأرفع والأقرب إلى التجربة الإنسانية: طاعة الوالدين. يقدم القرآن “بر الوالدين” كقيمة رفيعة، لكنه يحدد غايتها في تحقيق السكينة الأسرية. فإذا انحرف هذا البر عن هدفه أصبح طاعة مسمومة، وهذا ما تحذر منه الآية: “وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا”، مقدمةً الحقائق التكليفية على العلاقات البشرية. وهكذا يُعاد تعريف البر والعقوق انطلاقًا من تدرج القيم الهرمي، حيث قد يتحول رفض أمر الوالدين، رغم كون ظاهره عقوقًا، إلى أرقى صور البر إذا قصد حماية العائلة من الوقوع في الخطأ.
من هذا المنطلق، ننتقل إلى إشكالية الطاعة في فضاءات التنظيمات والحركات السياسية والاجتماعية، حين تتحول الطاعة إلى أيديولوجيا حركية تفرض انقيادًا صارمًا، وتخلط بين طاعة الله المطلقة وطاعة القيادة البشرية القابلة للنقاش. وقد أسست العديد من التنظيمات لـ”فقه الطاعة الحركية” الذي يحوّل الأعضاء من شركاء في المسؤولية إلى أدوات تنفيذ، في تراجع خطير عن المقاصد الشرعية.
مفهوم العهد الوجداني يقدّم إطارًا لمعالجة إشكالية الطاعة عبر المقاصد الشرعية، التدرج القيمي، المساءلة المتبادلة، والتوازن بين واجبات الطاعة وحقوق النصيحة لتحويلها إلى شراكة مسؤولة
فالخطاب القرآني يمثل مشروعًا متكاملاً لصناعة الإنسان، ليس بوصفه عبدًا مطيعًا فحسب، بل كائنًا مفكرًا ناقدًا، صاحب إرادة حرة. وتتجلى هذه الفلسفة في رفض القرآن لمنهج الطاعة غير الواعية، كما في قوله تعالى: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا”. فالإتباع هنا قد يكون تقليدًا لجهلة لا يعقلون، وهو ما يعدّ انتحارًا عقليًا.
ولمواجهة هذه الإشكالية، أقترح التأمل في مفهوم “العهد الوجداني” بوصفه إطارًا منهجيًا لمعالجتها، عبر أربعة أسس: مرجعية المقاصد التي تقدم الغايات على الوسائل، التدرج القيمي الذي يرتب الأولويات، آليات المراجعة القائمة على المساءلة المتبادلة، التوازن بين واجبات الطاعة وحقوق النصيحة.
فالطاعة في المنظور الإسلامي مقيدة بعدم معصية الخالق وعدم الإضرار بالبشر. وإذا أدت الطاعة إلى محرم أو أهدرت مصلحة كبرى، فإن الطاعة لله وتحقيق المصالح العليا مقدمة. وهذا ليس تخليًا عن الانضباط الجماعي، بل هو أعلى درجاته، لأنه يتمثل في منع القادة (الاجتماعي، السياسي، الديني) من الإقدام على الخطأ.
وهكذا تتحول أخلاقيات الرفض الواعي من ممارسة فردية إلى آلية جماعية، حيث تتحول الطاعة من انقياد أعمى إلى شراكة مسؤولة. وهي نقلة من ثقافة التبعية إلى ثقافة المساءلة، ومن منطق الأمر والطاعة إلى منطق الحوار والتفاهم. هو ليس تمردًا بل وفاء بالعهد الإلهي في إقامة العدل، وتحويل الطاعة من قيمة مجردة إلى ممارسة واعية تراعي مقاصد الشريعة وتحقق مصالح الناس.