البراءة الطائفية: تشريح آليات محو الذاكرة المشتركة

أسطورة البراءة الطائفية يجب كسرها والعودة إلى ذاكرة أكثر صدقًا تعترف بأننا لسنا دائمًا ضحايا ولسنا دائمًا أبرياء لكننا نستطيع أن نكون شركاء في بناء ذاكرة أكثر صدقًا وواقع أكثر عدلًا.
الجمعة 2025/08/22
الانقسام لم يكن قدرًا دائمًا

يُختزل تاريخ المذاهب في وعينا العام غالبًا في ثنائية مبسّطة: “سلطة سنيّة” في مواجهة “معارضة شيعية”. هذه الصورة، رغم شيوعها، لا تعكس واقع التاريخ بقدر ما تعكس حاجات السياسة. فالسلطة عبر العصور لم تكن يومًا تجسيدًا لمذهب، بل كانت تستعمل الدين للحصول على الشرعية، حتى لو لم تؤمن به. وفي المقابل، يتقرّب إليها بعض الفقهاء بدافع المصلحة أو الخوف، لا دفاعًا عن المذهب.

يكفي أن نتذكر أن أبا حنيفة، أحد أبرز أعلام الفقه السني، وأحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والجماعة، تم البطش بهما من قِبَل سلطة تشترك معهما في المذهب. تمامًا كما لقي السيد حسن المدرّس، أحد أعلام الحوزة الشيعية، حتفه على يد نظام رضا بهلوي حين عارض الاستبداد، وقُتِل خنقًا أثناء تأديته للصلاة، رغم اشتراكه معه في المذهب ذاته. في الحالتين، لم يكن المذهب هو التهمة التي وُجّهت إلى العلماء، بل الموقف السياسي.

ومن المفيد التذكير بأن التشيّع، تاريخيًا، بفعل التأثير العميق لثورة الإمام الحسين، تبنّى مقاومة الاستبداد، ودخل في صدامات متكررة مع السلطات؛ لا لأنها كانت “من مذهب آخر”، بل لأنها كانت ظالمة. ومن يُوهم بأن الصراع كان مذهبيًا إنما أراد عزل روح الأمة عن جسدها. فالسلطة التي قتلت الحسين وأهل بيته في كربلاء هي نفسها التي استباحت المدينة المنورة وقتلت خلال ثلاثة أيام سبعمئة من الصحابة وحفَظة القرآن في واقعة الحَرّة.

وإذا كانت كربلاء ترمز إلى رفض الطغيان، فإن التداخل العلمي بين المذاهب يذكّرنا بأن الانقسام لم يكن قدرًا دائمًا. أبوحنيفة نفسه يعترف بفضل الإمام جعفر الصادق على تكوينه العلمي قائلاً “لولا السنتان لهلك النعمان،” في إشارة إلى عامين قضاهما في حلقات الإمام. هذه الشهادة تكشف أن الفقهاء الكبار لم يتعاملوا مع المذاهب كجبهات متصارعة.

مفهوم البراءة ليس كإعلان طهارة طائفي بل إعلان رفض لاستخدام الدين لتبرير الاستبداد، فالبراءة الحقيقية ليست من “الآخر المذهبي” بل من الظلم أيًا كان مصدره

ولعلّ القرن الرابع الهجري يقدم صورة أوضح لهذا التفاعل. فقد كان عصرًا ذهبيًا فكريًا، شهد تلاقح المدارس الكلامية في بغداد، حيث درس الفقيه الإمامي محمد بن النعمان (الشيخ المفيد) على يد أعلام المعتزلة والأشاعرة والإمامية. ومن أبرز أساتذته أبوعلي الرماني المعتزلي، الذي يقول آغا بزرك الطهراني إنه لقّبه بـ”المفيد”.

ومثله، الفقيه والقاضي الشيخ محمد عبده، من أبرز علماء الأزهر، درس على يد جمال الدين الأفغاني. ذلك الحراك العلمي القائم على المناظرة والجدل لم يكن امتدادًا لنهج التكفير، بل مثال على أن الخلاف المذهبي يمكن أن يُدار بالعقل والحجة.

يبقى السؤال: كيف تحوّل تاريخ طويل من التفاعل والجدل الفكري إلى خطاب طائفي متصلّب يختزل الآخر في صورة عدوّ أبدي؟ هنا يظهر ما يمكن تسميته بـ”النسيان المنظَّم”، وهو ليس مجرد إهمال للذاكرة، بل عملية متعمدة للتضليل، تعمل في ثلاث دوائر مترابطة:

– طمس ذاكرة التعايش: حيث تختفي صور الأسواق المشتركة في بغداد، أو مدارس حلب التي خرّجت علماء من مذاهب متعددة، أو أحياء القاهرة التي جمعت المسلمين والمسيحيين في نسيج واحد.

– تجييش الذاكرة: عبر التركيز على مشاهد الدم والصراع وإعادة تدويرها حتى تصبح مرادفة للهوية المذهبية.

– صناعة البراءة المطلقة: أي إقناع كل طائفة بأنها ضحية خالصة وبريئة بالكامل، بينما الآخر هو مصدر الشر الذي تجب البراءة منه.

وهنا نصل إلى مفهوم البراءة، ليس كإعلان طهارة طائفي، بل إعلان رفض لاستخدام الدين لتبرير الاستبداد. فالبراءة الحقيقية ليست من “الآخر المذهبي”، بل من الظلم، أيًا كان مصدره. بهذا المعنى، يصبح التبرّي أداة للتحرّر، لا وقودًا لخطاب الانقسام. إن استعادة هذا المعنى هو السبيل لكسر أسطورة البراءة الطائفية، والعودة إلى ذاكرة أكثر صدقًا، تعترف بأننا لسنا دائمًا ضحايا، ولسنا دائمًا أبرياء، لكننا نستطيع أن نكون شركاء في بناء ذاكرة أكثر صدقًا، وواقع أكثر عدلًا.

9