العدالة المؤجلة: كيف شرع الخطاب العراقي التنمر الطبقي
يلاحظ في الخطاب العراقي شيوع فكرة أن الارتقاء الطبقي إنجاز أخلاقي بحد ذاته، وأن الصعود الاجتماعي فضيلة خالصة مستقلة عن العدالة والخير العام. هذا منطق مضمر ومسكوت عنه في أنماط اللغة السياسية، والإعلامية، والاجتماعية، والثقافية السائدة في العراق.
يُستخدم هذا المنطق لتبرير التعايش مع الاختلالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتكيف مع مظاهر الفساد، والزبائنية، وانعدام العدالة، وغياب تكافؤ الفرص في الدولة والمجتمع. فمهما كانت هذه الاختلالات بنيوية وعميقة، تُقدَّم كثمن مقبول أو مبرر لتحقيق الارتقاء الطبقي لفئات مهمشة.
ليس المقصود هنا الارتقاء الطبقي بوصفه طموحا فرديا مشروعا ومطلوبا، بل تسويقه كنصر في الصراع الطبقي بين الفئات الاجتماعية، وعرضه كعنوان للإنصاف والعدالة والكرامة لفئات معينة على حساب جوهر العدالة الشاملة، التي تعني إنصاف الجميع، وكرامة الكل، وإصلاحا بنيويا في عمق النظام، وسعيا دؤوبا للنماء الجماعي، والمصلحة العامة، والخير الوطني، أي العدالة بمعناها الإنساني، والمواطني، والحقوقي الواسع، الشامل، والديناميكي المستدام.
◄ في العراق، يتداخل الصعود الطبقي مع السرديات الهوياتية والمناطقية، فيتحول إلى تزكية معنوية لمن "ارتقوا" مع ازدراء من "بقوا في الأسفل"
فمثلا، يُحتفى بقصة كفاح “فلاحة” كانت تعمل في الزراعة، وتدرس في جامعة خاصة، وتتعرض للتنمر الطبقي، ثم حصلت على بكالوريوس التحليلات الطبية، وصارت موظفة في مستشفى. تُوصف هذه السيدة بـ“البطلة” في مواقع التواصل الاجتماعي لأنها عملت بجد واجتهاد، وارتقت طبقيا من “فلاحة” إلى “موظفة”. لكن، أليس الأجدى مساءلة النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يجعل “الموظفة” أرقى من “الفلاحة”؟ لماذا تُعد مهنة تحليل دم المريض في مختبر طبي أعلى اجتماعيا من زراعة البامية، والباذنجان، والطماطم في الحقل؟ ألا يمكن للفلاحة أن تتطور في الريف دون الحاجة لتصبح موظفة في المدينة؟ ماذا عن الفلاحات الأخريات في القرى والبساتين؟ وما أحلامهن وطموحاتهن؟ هل الاحتفاء بالخلاص الفردي يُعفي من التفكير في الأزمة الجماعية؟ ما العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي ساعدت هذه السيدة على النجاح، وقد لا تتوافر لغيرها؟ أليس في الإشادة بها كـ“فلاحة أفلتت من طبقتها” تكريسا لنظرة دونية للفلاحين بدلا من تقويضها؟
قد يكون حلم هذه السيدة الشخصي أن تدرس في الجامعة وتعمل كموظفة، وهذا طموح أحترمه وأهنئها على تحقيقه، وأقدّر مثابرتها. لكني أشير إلى طريقة تلقي المجتمع لقصتها، وتجييرها لصالح سردية جماعية تتعامل مع الارتقاء الطبقي كهدف أخلاقي بحد ذاته، دون التفكير في ماهيته، وحيثياته، وظروفه الذاتية والموضوعية، وعما إذا كان النظام المهيمن يتيح فرص الترقي للجميع بعدالة أم لا. المجتمع لا يحتفي بطموحها كحق شخصي، بل لأنها تحولت من طبقة “أدنى” إلى “أعلى”، وكأن مغادرة الطبقة “الأدنى” فعل أخلاقي ناصع.
هذا المنطق يجعل الارتقاء الفردي بديلا زائفا عن الإصلاح الجماعي، ويروق للطبقة السياسية، إذ يُعفيها من مسؤولية تحقيق التنمية المتوازنة، والعدالة الاجتماعية، وخلق فرص متكافئة للعراقيين جميعا، ثم إتاحة المجال لهم للسعي والتنافس وفق قدراتهم وجهودهم.
مثال آخر يتجلى في إشادة نخب عراقية بعهد عبدالكريم قاسم، لأن إصلاحاته أتاحت لمجتمعات محرومة ومهمشة التحرر من الفقر، وفتحت أمامها فرص التعليم والترقي الاجتماعي. لاحظ أن شرعية قاسم تُستمد هنا من دوره في مساعدة فئات على الارتقاء الطبقي، لا من كفاءة سياساته إستراتيجيا، أو من آثارها على الدولة والمجتمع ككل.
وفي سياق مماثل، قال صدام حسين مرة لمواطن بعثي رفض التطوع للقتال في حرب إيران “كم كنت تملك قبل الثورة؟”، كأنه يقول إن الثورة رفعت مكانتك الطبقية، وعليك رد الجميل بالتطوع! هذا المنطق يضمر أن الارتقاء الطبقي هو الهدف والغاية، وليس الشعارات الكبيرة عن العدالة، والمساواة، والحرية. العدالة هنا تعني ما تحقق لي ولجماعتي، لا للجميع. صدام كان يعتقد أن كل خطوة يخطوها، مهما كانت مدمرة، أخلاقية لأنها تصب في مشروعه الشخصي: الارتقاء من شاب ريفي فقير في تكريت إلى رئيس دولة وزعيم أمة. كان ينظر إلى دوره من خلال ذاكرة فقره وألمه، فيعبّر عن سعادته في زيارة مدرسة أثناء الحرب لأن التلاميذ يرتدون الأحذية، دون أن يسأل عن مصير آبائهم في ساحات القتال، أو تداعيات الحرب التي أعادت إنتاج الفقر والأمية.
◄ الارتقاء الفردي بديلا زائفا عن الإصلاح الجماعي، ويروق للطبقة السياسية، إذ يُعفيها من مسؤولية تحقيق التنمية المتوازنة، والعدالة الاجتماعية، وخلق فرص متكافئة للعراقيين جميعا
كذلك، قالت نائبة برلمانية في لقاء تلفزيوني إن العراقيين في زمن صدام كانوا محرومين من الموز والبيبسي. فالنظام الحالي يستمد شرعيته من قدرته على تمكين فئات من تناول الفواكه والمشروبات الغازية، لا من كفاءته السياسية، أو السيادية، أو الاقتصادية، أو التنموية، ولا من عدالة توزيع الثروة، أو استدامة توريد الموز والبيبسي. النائبة ترى النظام أخلاقيا لأنه يساعد المحرومين على الارتقاء الطبقي، دون مناقشة المحرومين الجدد الذين أنتجهم، أو أزماته الهيكلية التي تهدد باتساع دائرة المحرومية.
هذا المنطق، الذي يعتبر الارتقاء الطبقي قيمة أخلاقية بحد ذاته بغض النظر عن طريقة تحقيقه أو عدالة بيئته، يمنح شرعية ضمنية للفساد البنيوي. الطبقة السياسية بعد 2003 تماهت معه، فارتقى أعضاؤها عبر الامتيازات والفساد المشرّع، وأتاحت توزيعا هوياتيا وزبائنيا للريع النفطي، مما سمح بصعود فئات اجتماعيا واقتصاديا، فأصبح النظام “شرعيا” لأنه “رفع” مكانة جماعات، لا لأنه بنى دولة عادلة أو مستدامة.
الفساد هنا لا يُعد خيانة، بل آلية لـ“الإنصاف الطبقي” لفئات تتماهى سياسيا أو هوياتيا مع النظام، أو تتقرب إليه زبائنيا، أو يعطف عليها لشراء ولائها كحاضنة اجتماعية أو رافعة انتخابية. التوسع في الجامعات الخاصة، وبرامج الدراسات العليا، والتوظيف الحكومي، والترقيات العسكرية يعوّض ذاكرة التهميش الطبقي والجهوي. في العراق، يتداخل الصعود الطبقي مع السرديات الهوياتية والمناطقية، فيتحول إلى تزكية معنوية لمن “ارتقوا” مع ازدراء من “بقوا في الأسفل”.
قضايا سيادة القانون، والعدالة، والتنمية ليست أولويات في ظل اتفاق ضمني يقدّس الصعود الطبقي كهدف أخلاقي. الأنانية، والفئوية، والطائفية، والفساد تصبح ضرورات إذا أدت إلى “الارتقاء” من “الهامش” إلى “المركز”. قيمة “الإنجاز” لا تُقاس بشموليته الوطنية، أو استدامته التنموية، أو تعبيره عن العدالة، بل بما تحقق للفرد أو جماعته من مكاسب طبقية.
السؤال: هل نريد نظاما فئويا ريعيا، هشا، يرتقي ببعض الشرائح، أم نظاما مواطنيا تنمويا، فعالا، ومستداما، يحقق العدالة للجميع؟ أم أننا لم نعد نميز بين الصعود الطبقي والعدالة الشاملة، بين الأنا والوطن، بين الموز والكرامة؟