الشيعة بين قم والنجف.. من يفجّر المذهب
لا يحتاج انهيار الشيعة إلى عدو خارجي. العدو الأكبر خرج من العمامة، لا من السيف. فبين الحرس الثوري وعتبة النجف، لم يبقَ من التشيّع سوى ظلّه، يتمايل فوق أطلال الطف، وقد تحوّل الدم إلى خطاب، والخطاب إلى سلاح، والسلاح إلى ذبح داخلي.
بين ولاية الفقيه وصمت علي السيستاني، يتحوّل التشيّع من سردية الحسين إلى مشروع هيمنة، ومن مذهب احتجاج إلى مذهب انفجار ذاتي. فهل انتهى ما كان يُسمّى “مذهب الحق والإنصاف”؟
لقد تفكّك المحور الشيعي من الداخل، لا بفعل ضربات إسرائيل أو حصار الغرب، بل لأن المشكلة خرجت من قلب النجف، وعمّت عدواها قم، حتى صار الشيعي يخشى شيعيًا أكثر ممّا يخشى سنّيًا، ويُقتَل العراقي على الحاجز باسم الزهراء. لم تعد هناك حاجة إلى مؤامرة. انفجر المذهب بنفسه.
◄ بُني التشيّع منذ اللحظة الأولى، لا على فهم عادلٍ للإسلام، بل على خيالٍ مأساوي صاغته الأقلام تحت حدّ السيوف
إيران فجّرت التشيّع حين احتكرته، فنقلته من وجدانٍ شعبي إلى ترسانة صاروخية، واستبدلت “نهج البلاغة” بخرائط الهلال الشيعي. اختزلت الحسين في صورة خامنئي، وأحرقت الحُرّ في شباب النجف. جعلت اللطم سياسة، والبكاء طاعة، والفتوى بندقية. فانهار الجسر بين التاريخ والوجدان، وبات الحسين أيقونةً تُستخدم لنشر الموت، لا لكسر الظلم.
لكن النجف لم تكن بريئة. السيستاني صمت طويلًا، حتى بات صمته موقفًا، وموقفه تسترًا. لم يدعم مشروع إيران، لكنه لم يُعطِ الشيعة بديلًا. ترك فراغًا ملأه الحرس الثوري، وسكت عن ميليشيات تغتال باسمه. كان بإمكانه أن يقول “لا”، لكنه قالها بعد فوات الكرامة. لم يُنقذ العراق، ولا الشيعة، بل أنقذ صورة المؤسسة.
بين قم والنجف، يُسحَق الشيعي العادي. الجيل الجديد يتساءل: نحن أتباع من؟ أهل البيت، أم حزب الله؟ مرجعية النجف، أم مقر استخبارات طهران؟ كل شيء ضباب. العمائم كثرت، ولكن المذهب تضبّب. والحقيقة أن كلا الطرفين – طهران والنجف – شاركا في تفجير المذهب: إيران بالسلاح، والنجف بالصمت.
لم يعد التشيّع ذلك “المذهب المظلوم”، بل تحوّل إلى آلة حرب تديرها طهران من خلف ستار القداسة. لقد انفجر البيت الشيعي من الداخل، ليس بفعل أعدائه، بل بفعل “أوليائه” الذين حوّلوا الدين إلى سلاح والدم إلى عملة سياسية. إيران، التي اختطفت المذهب، حوّلت “ولاية الفقيه” من مجرد نظرية فقهية إلى دكتاتورية عسكرية صارمة، واستبدلت الحسين بخامنئي، والمهدي بالصواريخ الباليستية. لم يعد الولاء لأهل البيت، بل صار كل شيعي جنديًا إجباريًا في مشروع التوسّع الإيراني.
أما النجف، فلم تكن بريئة من الانهيار. بدت كمن خشي النجاة. لم ترفع السلاح، لكنها فتحت له الأبواب. السيستاني، الذي قُدّم كضمير التشيّع، لم يكن مجرد مرجع ديني، بل كاردينالًا سياسيًا بارك الاحتلال الإيراني بصمته، وحوّل الحوزة من منبر علمي إلى غرفة عمليات للميليشيات. لم يخطّط للخراب، لكنه تركه يكتمل، مستبدلًا الرفض بالتحفّظ، والموقف بالصمت. وبينما تمدّدت طهران في الجغرافيا، اتّسعت الفجوة بين التشيّع والعدالة، حتى صار المذهب بلا بوصلة، والمراجع بلا شجاعة.
والنتيجة جيلٌ من الشيعة بلا مذهب، يرى في عاشوراء مجرد معركة طائفية، وفي التشيّع ولاءً لإيران لا لأهل البيت. شبابٌ كُسر وجدانهم، ونساءٌ يبرّرن بالزينبية جرائم الميليشيات. لقد سكتت النجف طويلًا، حتى صار صمتها تواطؤًا، ومقام المرجعية حارسًا على ركام الهوية.
كيف يمكن أن يكونوا “مظلومين” وهم ذبحوا السوريين في درعا؟ وبأيّ وجه يبكون على “كربلاء” وهم يقصفون المدن اليمنية؟ وكيف يشكون التهميش في وقت تمتد خرائط نفوذهم من بغداد إلى بيروت؟ لقد مات التشيّع السياسي فعليًا عندما باع آخر بقايا قداسته لإيران، ولم يعد هناك فرق حقيقي بين “يا حسين” و”يا خامنئي” إلا في التوقيت فقط. والجيل القادم سيكتشف أن “المذهب” لم يكن إلا وهمًا كبيرًا لتحقيق أحلام فارسية توسّعية.
◄ إيران فجّرت التشيّع حين احتكرته، فنقلته من وجدانٍ شعبي إلى ترسانة صاروخية، واستبدلت "نهج البلاغة" بخرائط الهلال الشيعي
رغم كل ذلك، لا يزال التشيّع الأصيل، ينبض في قلوب الملايين كمذهب الحق والإنصاف. لكن هذا الخيال التاريخي لا يصمد أمام واقع الطف المتجدّد كل يوم. فهل بقي من المذهب ما لم يُستخدم في القتل؟ هل بقي من أهل البيت سوى أسماء يُلعَن بها الخصم؟ لقد تآكل الجوهر، وتحوّل المذهب إلى شعار يُرفَع في ساحات النفوذ، لا في محراب الفكر.
الخطر اليوم ليس أن يُباد الشيعة، بل أن يُباد معنى التشيّع نفسه. أن يُدفَن في العراق، وتُحرَق كتبه في اليمن، وتُمحى ملامحه في لبنان، ويُمسَخ وجهه في سوريا. كل هذا يتمّ بيد الشيعة أنفسهم. فلمَن سيُرفَع شعار “يا لثارات الحسين” غدًا؟ على مَن ستُلقى التبعة؟ إيران والنجف سويًا حفرتا القبر.
فمن يحفر قبر الشيعة؟ خصومهم؟ أم قادتهم؟
والجواب يخرج من فم طفل شيعي يشهق تحت القصف “من أين جاء هذا الموت؟ من المنبر.. أم من المنشار؟”
لقد بُني التشيّع منذ اللحظة الأولى، لا على فهم عادلٍ للإسلام، بل على خيالٍ مأساوي صاغته الأقلام تحت حدّ السيوف. لم يكن مشروع إنصاف، بل مشروع تغذّى على فكرة المظلومية. لا توجد عدالة في مذهبٍ يقدّس الدم، ولا إنصاف في سرديةٍ تقوم على الثأر الديني الأبدي. بل مشروع حنينٍ إلى سلطة ضائعة، تاهت بين الطف وقم.