الاعتراف الغربي بفلسطين: لماذا الآن

الدول التي أمضت عقوداً في توفير غطاء دبلوماسي للاحتلال تضع نفسها الآن في موقع المدافعين عن حقوق الفلسطينيين ليس بدافع قناعة حقيقية بل بدافع الضرورة السياسية وضغوط عامة غير مسبوقة.
الجمعة 2025/09/26
اعتراف أم غطاء سياسي

تُعَدّ سلسلة الاعترافات الغربية الأخيرة بدولة فلسطين واحدة من أكثر المناورات الدبلوماسية سخرية في العلاقات الدولية المعاصرة. فمع إعلان المملكة المتحدة وكندا وأستراليا والبرتغال وفرنسا اعترافها الرسمي بفلسطين، تنخرط هذه الدول في ما يمكن وصفه بـ”الدبلوماسية الاستعراضية”؛ وهي محاولة محسوبة لإرضاء الناخبين المحليين مع تجنّب أي إجراء ذي مغزى لوقف الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، على الأقل حتى الآن.

هذا الاعتراف المتأخر، الذي يأتي بعد ما يقرب من عامين من التدمير المنهجي لغزة من قبل إسرائيل وسبعة وسبعين عامًا من تسليط الكيان الصهيوني المسلّح من الغرب على رقاب العرب، يكشف عن الإفلاس الأخلاقي العميق للسياسة الخارجية الغربية. هذه الدول نفسها التي أمضت عقودًا في توفير غطاء دبلوماسي للاحتلال الإسرائيلي وتوسيع المستوطنات، تضع نفسها الآن في موقع المدافعين عن حقوق الفلسطينيين، ليس بدافع قناعة حقيقية، بل بدافع الضرورة السياسية المدفوعة بضغوط عامة غير مسبوقة وعزلة دولية متزايدة.

إن توقيت وظروف هذا الاعتراف يكشفان النفاق العميق الجذور في صميم السياسة الغربية تجاه فلسطين. ويحمل إعلان بريطانيا وزنًا تاريخيًا خاصًا، نظرًا لدورها في خلق الكارثة الفلسطينية من خلال إعلان بلفور عام 1917. وباعتبارها إحدى القوى الاستعمارية التي وعدت الحركة الصهيونية بأرض لا تملكها، تتحمّل بريطانيا المسؤولية الأساسية عن المعاناة التي استمرت قرنًا من الزمان. وبالمثل، فإن تواطؤ فرنسا عميق الجذور من خلال تزويدها إسرائيل بالتكنولوجيا النووية عبر مفاعل ديمونة، مما مكّن إسرائيل من أن تصبح دولة حائزة للأسلحة النووية وأدى إلى تغيير جذري في ميزان القوى الإقليمي. كان بإمكان هذه القوى الغربية الاعتراف بدولة فلسطينية منذ عقود لو أرادت منع وقوع المذابح وحملات التطهير العرقي والإبادة الجماعية. بدلاً من ذلك، اختارت هذه القوى الحفاظ على الخرافة القائلة بأن إسرائيل تمثل “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، متجاهلة الرقابة العسكرية التي قمعت باستمرار المعلومات عن جرائم الحرب الإسرائيلية.

هذا الاعتراف قد يسرّع من تحول إسرائيل إلى دولة منبوذة تمارس الفصل العنصري على غرار جنوب أفريقيا التاريخية. قد تؤدي العزلة الدولية المتزايدة، إلى جانب الضغط الاقتصادي المستمر والنبذ الدبلوماسي، إلى فرض تغييرات سياسية ملموسة

فلماذا الآن؟ الجواب هو أن الحكومات الغربية تواجه ضغوطًا محلية غير مسبوقة مع تحوّل الرأي العام بشكل كبير ضد تصرفات إسرائيل في غزة. في بريطانيا، أظهر استطلاع رأي حديث أن 56 في المائة من السكان يؤيدون الآن وقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، بينما يوافق 47 في المائة على أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، وهو تحول ملحوظ بالنظر إلى أن وسائل الإعلام الرئيسية قمعت هذا المصطلح لمدة عامين تقريبًا. كان حجم الاحتجاجات الشعبية غير مسبوق، حيث تظاهر أكثر من مليون شخص في لندن في نوفمبر 2023، تلا ذلك مظاهرات شهرية مارست ضغطًا مستمرًا على حكومة حزب العمال. وأدت احتجاجات مماثلة في مدن أوروبية أخرى، شارك فيها مئات الآلاف في روما ولاهاي وبروكسل ومدريد، إلى أزمة سياسية للحكومات اليسارية الوسطية التي لم يعد بإمكانها تجاهل مطالب ناخبيها.

كان إعلان كير ستارمر في يوليو عن الاعتراف المشروط – بتهديده بالاعتراف بفلسطين ما لم تتخذ إسرائيل “تدابير جوهرية” لإنهاء العمليات العسكرية – مصممًا بشكل واضح لتوفير غطاء سياسي مع العلم أن نتنياهو لن يمتثل أبدًا. وهذا يسمح للقادة الغربيين بالمطالبة بالسلطة الأخلاقية مع تجنّب أي مواجهة ذات مغزى مع السياسة الإسرائيلية. وكان رد فعل نتنياهو متحديًا بشكل مميز، حيث أعلن بشكل لا لبس فيه أنه “لن تكون هناك دولة فلسطينية غرب نهر الأردن”. ويكشف رد فعله عن الفراغ الأساسي للاعتراف الغربي، فالحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل لا تنوي السماح بالسيادة الفلسطينية بغض النظر عن الضغط الدولي.

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن شركاء نتنياهو في الائتلاف يضغطون من أجل الضم الفوري للضفة الغربية كردّ على الاعتراف الدولي. أعلن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عن خطط لاقتراح “التطبيق الفوري للسيادة في يهودا والسامرة” في الاجتماع المقبل لمجلس الوزراء، بينما كشف وزير المالية بتسلئيل سموتريتش عن خطط لضم 82 في المائة من الضفة الغربية. ستؤدي خطط الضم هذه إلى القضاء فعليًا على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية متصلة، وتقليص المناطق الفلسطينية إلى بانتوستانات معزولة.

تستفيد الديناميكية السياسية الداخلية الإسرائيلية في الواقع من الضغط الدولي، حيث يستخدم نتنياهو “التهديدات” الخارجية لتبرير اتخاذ تدابير أكثر تطرفًا. ومع تأمين دعم دونالد ترامب والدعم الصريح من الولايات المتحدة للإجراءات الإسرائيلية، يشعر نتنياهو بالقدرة على تجاهل الضغط الأوروبي تمامًا. والسؤال الأساسي هو ما إذا كان هذا الاعتراف سيغير أي شيء على أرض الواقع، والجواب هو: لا بشكل قاطع. فلسطين تحظى بالفعل باعتراف 147 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، لكن هذا لم يمنع استمرار توسيع المستوطنات وهدم المنازل أو الحملة الإبادة الجماعية الحالية. الاعتراف الرمزي دون آليات إنفاذ هو مجرد مسرحية دبلوماسية توفر الراحة النفسية للجمهور الغربي بينما يستمر الفلسطينيون في الموت. فما الذي يغيره الاعتراف بالنسبة للفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال، ويتعرضون للقصف، أو يتضورون جوعًا؟ تسيطر إسرائيل على جميع نقاط الدخول إلى الأراضي الفلسطينية، وتصدر تصاريح تنقل للفلسطينيين، وتواصل احتلالها العسكري للضفة الغربية. لا يمكن لأي قدر من الاعتراف الرمزي أن يغير هذه الحقائق دون تدابير إنفاذ ملموسة ترفض الحكومات الغربية تنفيذها إلى حد الآن.

على المدى القصير، من المرجح أن تؤدي موجة الاعتراف هذه إلى تسريع خطط الضم الإسرائيلية بدلاً من تخفيفها. يواجه نتنياهو ضغوطًا داخلية من ائتلافه اليميني المتطرف للرد بشكل حاسم

وعلى الرغم من الضغط الخطابي المتزايد، لا يزال النفوذ الاقتصادي الغربي ضد إسرائيل غير مستغل إلى حد كبير. ففي حين أن بعض الدول الأوروبية قد فرضت عقوبات محدودة – فقد حظرت بلجيكا الواردات من المستوطنات، وأقرت إسبانيا حظرًا رسميًا على الأسلحة، وبدأ صندوق الثروة السيادي النرويجي في سحب استثماراته من الشركات الإسرائيلية – إلا أن هذه الإجراءات لا تشكل ضغطًا اقتصاديًا ذا مغزى. يتمتع الاتحاد الأوروبي، باعتباره أكبر شريك تجاري لإسرائيل، بنفوذ كبير من خلال إمكانية تعليق اتفاقية الشراكة التي تمنح إسرائيل وصولًا تجاريًا تفضيليًا. ومع ذلك، فإن الانقسامات الداخلية في الاتحاد الأوروبي، ولا سيما معارضة ألمانيا القائمة على ذنب الهولوكوست، تحول دون اتخاذ إجراءات جماعية يمكن أن تضغط بشكل فعال على سلوك إسرائيل.

على المدى القصير، من المرجح أن تؤدي موجة الاعتراف هذه إلى تسريع خطط الضم الإسرائيلية بدلاً من تخفيفها. يواجه نتنياهو ضغوطًا داخلية من ائتلافه اليميني المتطرف للرد بشكل حاسم، ويخدم الضم أغراضًا سياسية متعددة: استرضاء قاعدته، وخلق حقائق على الأرض، وإظهار السيادة الإسرائيلية على الرغم من المعارضة الدولية. أما التداعيات على المدى المتوسط فأكثر تعقيدًا. يخلق هذا الاعتراف سابقة لإجراءات قانونية دولية مستقبلية ويفتح الطريق أمام عضوية فلسطين في المؤسسات الدولية. ومع ذلك، وبدون دعم الولايات المتحدة، تظل عضوية فلسطين في الأمم المتحدة معطلة بسبب حق النقض في مجلس الأمن.

والأهم من ذلك، أن هذا الاعتراف قد يسرّع من تحول إسرائيل إلى دولة منبوذة تمارس الفصل العنصري على غرار جنوب أفريقيا التاريخية. قد تؤدي العزلة الدولية المتزايدة، إلى جانب الضغط الاقتصادي المستمر والنبذ الدبلوماسي، في نهاية المطاف إلى فرض تغييرات سياسية ملموسة، لكن هذه العملية تتطلب عقودًا لا شهورًا. وفي الأثناء، يبقى المتحكم في الميدان هو الطرف الأقوى من ناحية السلاح، لا من ناحية القانون، وهو إسرائيل. إلا إذا استطاعت الدول الغربية (والعربية والإسلامية) إقناع الولايات المتحدة بتغيير موقفها الحالي، والتحول من الإنكار إلى الاعتراف بفلسطين كدولة ذات سيادة، وهو ما لا يبدو قريبًا جدًا.

6