الإخوان في الأردن: حين لا تُقصى بل تُقصي نفسك

الإخوان لا نراهم كضحايا بل كفاعلين أخفقوا في فهم الدولة حين فتحت أبوابها، وفاتهم أن الأزمة ليست دائمًا في الإقصاء بل أحيانًا في العجز عن البقاء حين لا يقصيك أحد.
الأربعاء 2025/07/23
بنية مغلقة ترى المجتمع مادة تعبئة لا شريكًا

في العالم العربي، حيث تتسم العلاقة بين الدولة والإسلاميين غالبًا بالصدام أو الإقصاء، بدا النموذج الأردني حالة شاذة، دولة لم تحظر جماعة الإخوان المسلمين، بل احتضنتها جزئيًا، وسمحت لها بالمشاركة في النقابات والبرلمان والتعليم والعمل الخيري، بل منحتها فرصة الوجود السياسي القانوني الكامل، في حين كانت الجماعة تُطارد أو تُجرَّم في معظم الجوار الإقليمي. ومع ذلك، انتهت هذه العلاقة إلى قطيعة شبه كاملة، لا بسبب انقلاب أو صدام دموي، بل نتيجة فشل صامت، متراكم، عميق في البنية الفكرية والسلوكية للجماعة، التي لم تفهم قواعد الدولة، ولم تتكيَّف مع ضرورات السياسة، ولم تنجح في التحول من تنظيم عقائدي مغلق إلى فاعل وطني مدني. إنها سوسيولوجيا الفشل حين لا يكون الخارج خصمًا، بل الداخل هو العائق الأكبر.

لم تكن الدولة الأردنية خصمًا للجماعة، بل كانت الطرف الأكثر صبرًا في العلاقة. أرادت منها أن تتصرف كفاعل مسؤول في الحقل السياسي الوطني، أن تضع الولاء للدولة قبل التنظيم، وأن تفصل بين الدعوة والسياسة، وأن تكون جزءًا من النظام لا مجرد متربص به. لكن الجماعة لم ترَ في الدولة سوى مرحلة مؤقتة نحو مشروعها الأكبر. ومع صعود موجات الإسلام السياسي بعد 2011، تصاعدت نبرة الإخوان وكأنهم في طريقهم إلى وراثة الدولة، لا التشارك معها. فجأة، أصبح خطابهم رماديًا في ولائه، وتحولت علاقتهم بالقوى الإقليمية من تنسيق إلى تبعية رمزية، وبدت الجماعة وكأنها تتهيأ لمعادلة لا مكان فيها للهوية الوطنية، بل إلى مشروع أممي هجين لا يعترف بحدود الدولة ولا بمركزية القرار السيادي.

بنى الأردن نظامه السياسي على فكرة التوازن والمرونة والانفتاح المشروط، واحتوى الجماعة لعقود باعتبارها جزءًا من نسيج اجتماعي – سياسي متنوع. لكن الجماعة لم تبنِ ذاتها على هذا التعايش. ظلت بنية مغلقة، هرمية، أيديولوجية، ترى المجتمع مادة تعبئة لا شريكًا، وتتعامل مع النقابات كغنائم لا كمنصات خدمة، ومع الدولة كمنافس لا كشريك، ومع المواطن كأداة لا كذات مستقلة. ففي الوقت الذي كانت فيه أنظمة أخرى تطارد الجماعة أمنيًا، كان الأردن يمنحها فرصًا للتطبيع السياسي والاجتماعي، لكنها أصرَّت على البقاء في موقع المقاومة الصامتة، لا موقع الشراكة الرشيدة.

وبينما شهدت الحركات الإسلامية في دول مثل تونس والمغرب تطورات فكرية سمحت لها بالتحول إلى أحزاب مدنية تحكم وتُعارض ضمن اللعبة الديمقراطية، بقيت جماعة الإخوان في الأردن حبيسة سرديات الستينات. لم تستطع أن تنتج خطابًا سياسيًا حديثًا، ولا أن تتصالح مع فكرة الدولة كوطن، لا كمرحلة. ظلت أدواتها في الحشد والتأثير تنتمي إلى زمن الكتيبات المغلقة والخطابات الأخلاقية الطهرانية التي لا تصلح للفضاء العام المدني. وبدلًا من أن تتكيَّف مع تغيرات المجتمع والدولة، انسحبت إلى داخلها، واختارت “الصمت المتحفّظ” بدل التفاعل الذكي، والتحشيد الغريزي بدل التمثيل السياسي الناضج.

◄ الدولة الأردنية لم تكن خصمًا للجماعة بل كانت الطرف الأكثر صبرًا في العلاقة وأرادت منها أن تتصرف كفاعل مسؤول في الحقل السياسي الوطني وأن تضع الولاء للدولة قبل التنظيم

اللافت أن هذا الفشل لم يكن نتيجة ضربة قاصمة أو مواجهة أمنية، بل نتيجة تآكل بطيء في شرعية الجماعة، واغتراب متزايد عن المجتمع. الجماعة فقدت جمهورها قبل أن تُقصى من البرلمان، وفقدت فعاليتها المجتمعية قبل أن تتهم الدولة باستهدافها. والأهم من كل ذلك، فقدت قدرتها على الإقناع، لا لأنها محاصرة، بل لأنها لم تعد تملك لغة حديثة، ولا مشروعًا وطنيًا جامعًا. كانت تراهن على ذاكرة التنظيم، بينما تغيرت ذاكرة الناس. وكانت تؤمن بأن الجماهير ستبقى وفيّة لمجد قديم، لكنها لم تدرك أن المجد لا يُورَّث، بل يُعاد إنتاجه مع كل جيل.

لقد خسرت الجماعة الدولة التي لم تخسرها، وهذه من أندر المفارقات السياسية في المنطقة: أن تكون الدولة مستعدة للتعايش، بينما التنظيم مصرٌّ على التمايز والارتياب. فالدولة لم تغلق الباب، لكنها طلبت قواعد جديدة للعبة، قواعد توازن بين الدين والسياسة، بين الهوية والولاء، بين العمل الخيري والانتماء المدني. وما كان مطلوبًا من الجماعة ليس أن تتنازل عن دينها، بل أن تفهم أن الدولة ليست عدوّا، وأن السياسة ليست ساحة استعلاء، بل فن التدرّج والتعقّل والمصلحة العامة.

ما جرى في النهاية لم يكن صراعًا، بل انفضاضًا ناعمًا بين طرفين سلكا طريقين متعاكسين: الدولة نحو التماسك، والجماعة نحو التصلّب. واليوم، حين ينظر الأردني إلى الجماعة، لا يرى عدوّا، بل يرى كيانًا خارج السياق، غريبًا عن لغة الدولة، وخارج الزمن الاجتماعي. الجماعة لم تُقصَ بقرار، بل خرجت بفعل تراكمات ذاتية، وخيارات خاطئة، وتكلّس عقائدي أعمى عن التغيرات.

في السياسة، لا يكفي أن تبقى على قيد الحياة، بل يجب أن تبقى على قيد الفهم. والإخوان في الأردن، عاشوا طويلًا، لكنهم لم يفهموا شيئًا. لقد فاتهم أن الدولة لا تنتصر بالقوة فقط، بل تنتصر بالحكمة. وفاتهم أيضًا أن المجتمع لا يمنح ولاءه لمن يتعالى عليه، ولا لمن يخاطبه من داخل كهف العقيدة دون أن يلمس نبض الحياة.

لم تكن الجماعة ضحية دولة قاسية، بل ضحية وعي مغلق. وما خسرته ليس فقط برلمانًا أو نقابة أو جمهورًا.. بل خسرت فرصة أن تكون جزءًا من المستقبل.

في هذا المقال التحليلي – النقدي، لم يكن الهدف محاكمة جماعةٍ انتهى دورها، بل تحليل كيف تنتهي الأدوار حين تُغلق العقول على الأيديولوجيا، وتنكمش التنظيمات على ذاتها. لقد استند هذا النص إلى ثلاثة أطر فكرية كبرى: نقد الأيديولوجيا كما طوّرته مدرسة فرانكفورت، وسوسيولوجيا الحركات الاجتماعية كما صاغها تشارلز تيلي عند تفسيره للفشل التنظيمي، ومفهوم “ما بعد الإسلامية” الذي طوّره مفكرون، أمثال أوليفييه روا، لفهم تحولات الخطاب الديني في المجال العام.

بهذه العدسة، لا نرى الإخوان كضحايا، بل كفاعلين أخفقوا في فهم الدولة حين فتحت أبوابها، وفاتهم أن الأزمة ليست دائمًا في الإقصاء.. بل أحيانًا في العجز عن البقاء حين لا يقصيك أحد.

9