الأردن.. بلد أتقن فنّ الوجود
في منطقة يُعاد رسم خرائطها بأدوات لم تعد عسكرية بل وظيفية، تبرز دول تقاوم الانقراض السياسي بأساليب لا يمكن تقليدها. من بين هذه الدول الأردن الذي أتقن فنّ “الوجود منخفض الصوت، مرتفع المعنى.”
ما يجري اليوم في عمّان لا يشبه تحديثا تقنيا أو تغييرا وزاريا، بل هو أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ”هندسة ذاتية للدولة”، استباقا لما يُعاد طبخه من تقسيمات نفوذ إقليمية، وتحولات فوق-جيوسياسية تنذر بولادة شرق أوسط خامس، تُنحت حدوده هذه المرة ليس بالدم، بل بالمشاريع والموانئ والغاز واللاجئ والنسيان المدروس.
التحولات التي يشهدها الداخل الأردني -على مستوى مؤسسات الحكم والنخب والمجالات البلدية والنقابية والخطاب الديني والثقافي- لا تصدر عن فراغ. إنها عملية ترتيب ما قبل الكارثة؛ صيانة الدولة دون إعلان الطوارئ، وضبط إيقاع الداخل تمهيدا لعاصفة خارجية قد لا تطرق الباب حين تصل.
◄ ما لم يُفهم أن بقاء الأردن لم يكن حادثا طارئا، بل مشروعا طويل النفس لدولة تعرف كيف تُعيد إنتاج ذاتها في كل مرة تحترق فيها الخريطة من حولها.
فالدولة هنا لا تعبّر عن قلقها عبر الخطاب، بل عبر فعل إداري، سياسي، أمني، هادئ. وهذه الاستجابة الصامتة ليست ضعفا، بل جزء من البرمجة الجيوسياسية للأردن كدولة وسيطة (Buffer State)، اعتادت أن تحيا في هوامش التوتر، وتلعب أدوارا تتجاوز وزنها السكاني والجغرافي.
وهذه ليست المرة الأولى؛ لقد عبر الأردن سايكس-بيكو دون أن يُختزل، وعندما تهاوت جمهوريات الشام والعراق تحت وطأة الانقلابات، ظل ثابتا دون أن يتخشّب.
وكان الناجي الوحيد من “الزوبعة الناصرية”، استدرج الفكرة دون أن يبتلعها، وأبقى على شعلة الهوية دون أن يحترق بها. مرّ باتفاقيات السلام منفردا، لكنه لم يفرّط في ذاكرته الوطنية، ولا في خطوطه الحمراء الجغرافية. والأهم أنه حافظ على الهوية الأردنية الأصيلة التي تميّزه في قلب عاصفة التغيير. وحين اجتاحت موجات الربيع العربي العواصم، واجهها بلا رصاص، ولا رايات مشتعلة.
كل هذا لم يكن صدفة، بل انعكاسا لمرونة إستراتيجية ميّزت الأردن لعقود، حيث لا يملك ترف الانفجار، ولا غنيمة التحالفات المطلقة، فصنع من “البين بين” عقيدة بقاء.
لكن المختلف هذه المرة، أن الأردن بات يقف أمام مشروع تفكيك جديد للمنطقة، يتخفّى في ثوب الحلول الكبرى، ويخفي وراءه خريطة ثانية: خريطة تريد فلسطين دون فلسطينيين، وتريد للأردن أن يتحوّل من دولة ملجأ إلى دولة عبور، من لاعب سياسي إلى حارس جغرافي.
هنا تكمن خطورة المرحلة. وهنا يفهم من يراقب عن كثب، لماذا يتحرك الأردن داخليًا بهذه الدقة.
فما يبدو تحريكا إداريا قديما، هو في الحقيقة تفكيك هادئ للموروث الوطني، وإعادة تشكيله، وصياغة خطاب سياسي-اجتماعي جديد يُعِدّ المجتمع الأردني لما بعد مرحلة “الخطاب الدفاعي”.
◄ التحولات التي يشهدها الداخل الأردني -على مستوى مؤسسات الحكم والنخب والمجالات البلدية والنقابية والخطاب الديني والثقافي- لا تصدر عن فراغ
لذلك لا نرى حالة طوارئ معلنة، لأن الطوارئ الحقيقية ليست في القانون، بل في الذهن. والدولة التي تفهم أن المعركة المقبلة تُخاض بالهوية لا بالبندقية، وبالإدارة لا بالشعارات، تعرف أن الوقت لا يُدار، بل يُربَك الخصم بالاستعداد له.
ما يريده الأردن اليوم ليس حماية نفسه فقط، بل تثبيت موقعه. فهو لم يعد يفاوض على بقائه، بل يُفاوض على تعريفه.
وفي مرحلة يُعاد فيها رسم خرائط الأدوار قبل الجغرافيا، يُدرك الأردن أن الغياب عن الطاولة أسوأ من الخطأ في التوقيع.
لذلك، فإن ترتيب الداخل ليس مجرد إصلاح، بل تمرين جيوسياسي على النجاة القادمة. وإن بدا الصمت طويلاً، فهو ليس تردّدا، بل استدراك ما لا يُقال في العلن.
ما لم يُفهم أن بقاء الأردن لم يكن حادثا طارئا، بل مشروعا طويل النفس لدولة تعرف كيف تُعيد إنتاج ذاتها في كل مرة تحترق فيها الخريطة من حولها. وما يُعاد ترتيبه اليوم في الداخل، ليس سوى النسخة الصامتة من إعلان الدفاع عن المعنى، فحين يصمت الأردن، لا يسكت.. بل يُهندس خريطته القادمة.