ماذا عن سردية إخوان السودان في الإمارات
منذ أن انطلقت الرصاصة الأولى في الخرطوم في نيسان – أبريل 2023، والبلاد تعيش في جحيم حرب مفتوحة لا أحد يعرف مداها، ملايين النازحين، اقتصاد مشلول، مؤسسات مفككة، مجاعة تطرق الأبواب، ومدينة الفاشر وحدها تختصر ملامح حرب الإبادة، لكن وسط هذا الركام، تبرز حقيقة واحدة لم تعد تحتمل الالتفاف أو الإنكار.. الإخوان المسلمون هم أصل الأزمة السودانية، وكلما تقدّمت الإمارات في صياغة موقفها حول الملف السوداني، كلما بدا أن رؤيتها تصيب لبّ الحقيقة، منذ البداية، لم تتردد أبوظبي في القول إن هذه الحرب ليست مجرد صراع على السلطة بين الجنرالين، بل هي في جوهرها امتداد لمشروع الإسلام السياسي الذي رفض أن يغادر المسرح بعد سقوط البشير، مشروع جرّ الخرطوم إلى تحالفات خارجية مظلمة، وربطها بمحاور طهران وأنقرة، وحوّل الدولة إلى ساحة ملحقة بتنظيم دولي يتقن إعادة تدوير نفسه تحت كل أزمة.
البيان الأخير للرباعية الدولية التي تضم الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات شكّل محطة غير مسبوقة حين حمّل جماعة الإخوان المسلمين مسؤولية مباشرة عن استمرار الحرب، لكن الحقيقة أن الإمارات سبقت الجميع في تسمية الأشياء بأسمائها، مصر والسعودية فضّلتا التعامل مع ممثلي الجبهة الإسلامية باعتبارهم “بقايا النظام القديم” يمكن إشراكهم في التسويات، أما واشنطن فمالت إلى إمساك العصا من الوسط، تُلوّح بالعقوبات وتبحث عن تسويات هشة، وحدها الإمارات رفعت الصوت منذ سنوات لتقول إن السودان لن يستقر ما لم يُفكك نفوذ الإخوان، وأن كل محاولة لتدويرهم داخل السلطة هي وصفة لحرب قادمة، واليوم يثبت الواقع أن تلك القراءة لم تكن مزاجًا سياسيًا بل بوصلة صائبة، فالجيش، مهما حاول أن يقدم نفسه كحامي الدولة، يبقى مثقلاً بتحالفات مريبة مع بقايا الحركة الإسلامية، و”الدعم السريع” الذي رفع شعار الثورة انكشف كقوة مرتزقة لا مشروع لها سوى المال والسلاح، في الحالتين، ظل الإخوان يمدّون خيوطهم داخل المؤسستين، يفاوضون من خلف الستار، ويستخدمون الخراب أداة لابتزاز الداخل والخارج.
البيان الأخير للرباعية الدولية التي تضم الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات شكّل محطة غير مسبوقة حين حمّل جماعة الإخوان المسلمين مسؤولية مباشرة عن استمرار الحرب
منذ انقلاب حسن الترابي على الدولة في 1989، والسودان يعيش أسر مشروع الإخوان، انقلاب قسّم البلاد على أسس الهوية، أشعل حرب الجنوب حتى انفصال 2011، وفتح دارفور على مجازر موثقة في محكمة الجنايات الدولية، لم يكن الهدف بناء دولة حديثة، بل تحويل السودان إلى قاعدة خلفية لمشروع إسلامي عابر للحدود، وحين سقط البشير بثورة ديسمبر 2018، تخيّل السودانيون أنهم طووا الصفحة، لكن الجبهة القومية الإسلامية أعادت تدوير نفسها عبر واجهات جديدة، من كتائب الظل إلى كتائب البراء، ومن تحالفات مع بعض قيادات الجيش إلى اختراق الحركات المسلحة، وهكذا انفجرت الحرب الأخيرة، ليس فقط كصراع بين جيش ودعم سريع، بل كمعركة بقاء لتنظيم يرفض الاعتراف بانتهائه، كل بيت تهدم في الخرطوم، وكل نازح على الطرقات، هو ضريبة يدفعها الشعب لخيارات اتخذها الإخوان منذ ثلاثة عقود.
ما ميّز الموقف الإماراتي أنه لم يساوم على الجوهر، منذ بداية الحرب، قالت أبوظبي إن السودان يحتاج إلى فصل نهائي مع مشروع الإسلام السياسي، لا قيمة لأيّ هدنة أو انتقال سياسي إذا بقيت الجبهة القومية الإسلامية تتحكم في مسارات الدولة، لذلك كان الخطاب الإماراتي أكثر صراحة حتى في وجه الجيش نفسه، الذي وُصف غير مرة بأنه يتحالف مرحليًا مع الإخوان لتثبيت سلطته، صحيح أن هذا الوضوح كلّف الإمارات حملات تشويه إعلامية ضخمة وصدامات دبلوماسية مع بعض القوى، لكنه في المحصلة منحها موقعًا متقدمًا على خريطة الوعي السوداني والعربي، أبوظبي لم تخطئ البوصلة، بينما توزع الآخرون بين حسابات النفوذ وحدود المصالح، ظلت الإمارات تكرر أن أصل الداء هو الإخوان.
المجلس السيادي السوداني رفض بيان الرباعية تحت ضغط مباشر من الجبهة الإسلامية، وبفعل عقوبات أميركية طالت وزير المالية جبريل إبراهيم أحد رموز العدل والمساواة، لكن الشارع السوداني يعرف أن هذا الرفض ليس إلا امتدادًا لسطوة الإخوان على القرار السياسي والعسكري، على الجانب الآخر، تمثل الفرصة اليوم في إمكانية حدوث فرز داخلي داخل تيار الإسلاميين أنفسهم، بين متشددين يصرّون على خيار الحرب بأي ثمن، ومعتدلين باتوا أكثر وعيًا بفشل المشروع وبعضهم كان قد رفض البشير حتى في سنوات حكمه الأخيرة، هذا الفرز إذا تحقق قد يفتح الباب لتوافق وطني واسع، يضع المعتدلين في مواجهة المتطرفين، ويتيح للقوى المدنية والمجتمعية صياغة جبهة سلام أوسع، مثل هذا التوافق يحتاج إلى دعم شعبي وإقليمي، وهنا يأتي دور الإمارات التي تستطيع برؤيتها الواضحة أن تدفع بهذا المسار إلى الأمام.
السودان اليوم يقف أمام مفترق طرق فإما أن يظل رهينة حرب عبثية تقودها جماعة أفلست سياسيًا لكنها ما زالت تملك السلاح، أو أن يستعيد فرصة المستقبل عبر توافق وطني يزيح الإخوان من المشهد
وسط هذه الحسابات السياسية، هناك واقع إنساني قاسٍ لا يمكن تجاهله: 25 مليون سوداني بحاجة إلى مساعدات عاجلة و10 ملايين نازح داخل البلاد، الأزمة السودانية اليوم تُصنّف كأكبر أزمة إنسانية في العالم، ومع ذلك تستمر الحرب وكأنها مباراة صفرية بين الجنرالين، الحقيقة أن الشعب هو الخاسر الوحيد، بينما تتوزع مكاسب الإخوان على طاولات السياسة والقتال، هذا الواقع يضغط على كل الفاعلين، لم يعد ممكنًا الحديث عن انتظار ميدان الفاشر أو معركة الخرطوم كأنها معارك شرف عسكرية، بينما البلاد تنهار والمؤسسات تُمحى، الضغط الدولي والإقليمي يجب أن يذهب مباشرة نحو تفكيك البنية التي أبقت الإخوان في المشهد، لا مجرد الدعوة إلى هدنة جديدة سرعان ما تنهار.
الفارق بين الموقف الإماراتي وبقية أطراف الرباعية أن أبوظبي لم تتردد في تسمية الإخوان كجذر الأزمة، بينما اكتفت واشنطن بالحديث عن عقوبات وتحفيزات، وظلت الرياض والقاهرة تراهنان على الجيش كمؤسسة يمكن إصلاحها من الداخل، لكن ما يثبته الواقع أن الجيش ذاته يحتاج إلى إعادة تعريف، لأنه طالما بقي مرتبطًا بتحالف مع الإخوان فلن يكون جزءًا من الحل، هنا يصبح الموقف الإماراتي ليس مجرد قراءة بل خريطة طريق فلا استقرار بلا اجتثاث نفوذ الإخوان، لا تنمية بلا كسر احتكارهم للمؤسسات، ولا سلام بلا فصلهم عن القرار العسكري والسياسي.
السودان اليوم يقف أمام مفترق طرق فإما أن يظل رهينة حرب عبثية تقودها جماعة أفلست سياسيًا لكنها ما زالت تملك السلاح، أو أن يستعيد فرصة المستقبل عبر توافق وطني يزيح الإخوان من المشهد، الإمارات قدّمت الدرس مبكرًا.. سمّوا الأشياء بأسمائها، فالمشكلة ليست في القبيلة ولا في الجنرال ولا في موارد الذهب، بل في مشروع الإخوان الذي يرفض أن يموت، وإذا كان الشعب السوداني اليوم هو الضحية الأكبر، فإن فرصته الحقيقية أن يتحول إلى القوة الدافعة التي تعزل المتطرفين وتفرض سلامًا جديدًا، سلام يقطع مع الماضي ويمنح السودان أفقًا آخر غير انتظار الموت، الإمارات حين تُصر على هذا التعريف، فإنها لا تمارس ترفًا سياسيًا، بل تؤكد أن الخرطوم لن تنهض إلا إذا تحررت من عبء الإخوان، وهذه ليست مجرد رؤية، بل مسؤولية تاريخية يجب أن يدركها السودانيون قبل غيرهم فالمستقبل لن يبدأ إلا من لحظة كسر المشروع الإخواني نهائيًا.