قطر ليست نقطة في آخر السطر
في الخطاب التاريخي للرئيس المصري محمد أنور السادات في الكنيست الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر 1973 قال نصاً: “إن عليكم أن تتخلوا نهائياً عن أحلام الغزو، وأن تتخلوا أيضاً عن الاعتقاد بأن القوة هي خير وسيلة للتعامل مع العرب. إن عليكم أن تستوعبوا جيداً دروس المواجهة بيننا وبينكم، فلن يجديكم توسعٌ شيء”، كنا وسنظل في هذه المنطقة من العالم نعرف بأننا نعيش في جغرافيا لا يمكن التنبؤ بحاضرها فكيف بمستقبلها؟ الثابت أن الديناميكيات في الشرق الأوسط ليس لها من وقوف فديمومة الحركة تؤدي غالباً للتصادم.
لا شك أن السياسات المتناقضة تؤدي أيضاً لنتائج حتمية باشتباكات حادة، دور السياسة هي تجنب التصادمات، وفي الذهنية الخليجية ذاكرة مثقلة من كل هذه النتائج، لا جدال أن العقل الخليجي بالذات لا يمكنه أبداً أن ينسى أو حتى يتناسى غزو العراق لدولة الكويت في فجر 2 أغسطس/آب 1990، ذلك الفجر مهما تعاقبت عليه السنوات والعقود يظل يطارد الذاكرة العربية والخليجية، فالغدر الذي طعن ظهر العرب بخنجر العرب كان تحوّلاً بلا قرار أبداً في الوجدان العربي والخليجي بالذات.
قد يكون، ونعيدها أخرى، قد يكون أن قطر دفعت ثمن سياساتها المتناقضة، سياسات الألف وجه كان لابد وأن تصل إلى هذه النتيجة الحتميّة، غير أن ضربتين في الرأس توجع كما يتداول الناس، في ثلاثة أشهر أيّ 78 يوم هي المسافة بين قصف إيران لقاعدة العديد في قطر وبين الهجوم الإسرائيلي على وفد حماس في الدوحة، لم تكاد قطر تستفيق من الضربة الإيرانية حتى جاءتها الضربة الإسرائيلية.
الدرس الأهم هو أن القطريين لم يجدوا أحدًا معهم ممن ظنّوا أنهم حلفاء فلا الإيراني ولا التركي بينما كان دائمًا الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات حاضرًا معهم ولهم
كل ما مضى مضى، غير أن التقييمات الحارة والأسئلة المتطايرة وحتى الكلمة التي أطلقها رئيس الوزراء القطري بعد الإسرائيلي “خيانة”، تفتح من الأسئلة ما ليس له من إجابات، فهل الخيانة من أميركا؟ أو إسرائيل؟ أو تركيا، البلد الأخير الذي كان فيه وفد حماس؟ منّ خان منّ؟ الخيانة لها وجه واحد وألف طرف، ما ذكره عبدالرحمن آل ثاني سيبقى ككثير من أسرار التاريخ السياسي بلا حقيقة كاملة، غير أن حقيقة ثابتة أن إسرائيل هاجمت الدولة الخليجية التي كانت مفتاحاً لها للعرب فلولا قطر وقناة الجزيرة لم يعرف العرب إسرائيل من شمعون بيريز إلى تسيبي ليفني وحتى آخر محللي القناة من وسط تلّ أبيب.
المقارنات والمفارقات لا يمكنها أن تغادر لحظة قطر، لكن الأهم من ما مضى هو التأمل في أن دول الخليج العربية التي استفاقت على الحقائق الكبرى، هل مازلنا وبعد ثلاثة عقود من العمل على ترميم منظومة الدفاع الخليجية لم ننجح؟ أين هي الثغرة في سياساتنا الدفاعية؟ من يقود ساعة الخطر؟ ومن يملك قرار الردع الجماعي؟ أسئلة كبرى في العقل السياسي الخليجي الذي يعرف أنه عمل منذ تحرير الكويت على بناء منظومات دفاعية، الهجوم على أرامكو أيضاً وللمفارقة العجيبة أنه كان أيضاً في سبتمبر/أيلول 2019، وفي يناير 2022 تعرضت العاصمة أبوظبي لهجوم إرهابي من الحوثيين في اليمن، هنا يستيقظ العقل السياسي الخليجي على الحقائق، فالوقائع تطرح الأسئلة الكبيرة.
شكّلت الإمارات سياقًا سياسيًا يمكن النظر إليه في العالم العربي باعتباره مدرسة في الواقعية السياسية. قرار توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية في أيلول/سبتمبر 2020 كان خطوة تقدمية اعتمدت على نهج براغماتي واضح: فلا يمكن وقف الاستيطان أو فتح مسار جاد لإقامة الدولة الفلسطينية من دون اتفاقية متعددة الأبعاد.
إحدى زوايا هذه الاتفاقية أن تُمنح إسرائيل فرصة لتكون جزءًا من المنظومة الاقتصادية والأمنية الإقليمية، بما يتيح للعرب ورقة ضغط جديدة. ومنذ ذلك الحين ظلت مسألة توسيع الاتفاقيات إحدى الأوراق الكبيرة في يد السياسي العربي، سواء كان ساكن البيت الأبيض جمهوريًا أو ديمقراطيًا؛ فالمهم أن تبقى هذه الورقة بيد العرب ليحسنوا استثمارها.
وهذا ما فعلته الإمارات عمليًا بعد هجوم 7 أكتوبر، إذ استطاعت عبر قنواتها الدبلوماسية والإنسانية أن توصل المساعدات إلى غزة، مؤكدة أن الاتفاقيات لم تكن غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق مصلحة عربية عليا تجمع بين الأمن والسياسة والإنسانية.
إن السؤال الأعمق ليس فقط في حجم الإنفاق العسكري ولا في صفقات التسلح الضخمة، بل في غياب العقيدة الدفاعية المشتركة، لقد أثبتت الوقائع أن الترسانات المتكدسة بلا قيادة موحدة تظل عاجزة عن توفير المظلة التي تحمي العواصم وتردع الخصوم، إسرائيل قصفت الدوحة، إيران ضربت العديد، الحوثي استهدف أبوظبي، وفي كل مرة بقي الرد فردياً أو محكوماً بالحسابات السياسية الخاصة، لا بقرار جماعي حاسم.
هل مازلنا وبعد ثلاثة عقود من العمل على ترميم منظومة الدفاع الخليجية لم ننجح؟ أين هي الثغرة في سياساتنا الدفاعية؟ من يقود ساعة الخطر؟ ومن يملك قرار الردع الجماعي؟
ما جرى في قطر يفتح الباب لأسئلة حول الموثوقية الدولية.. فإلى أيّ حد يمكن الاعتماد على المظلة الأميركية أو الأوروبية؟ وهل يمكن الاستمرار في الرهان على الحليف الخارجي بينما الأحداث تثبت أن القرارات الدولية محكومة بالمصالح، وأن اللحظة الحرجة قد تترك أي دولة بمفردها؟ هذا السؤال، وإن بدا قاسياً، هو جوهر ما يجب أن يُطرح على طاولة مجلس التعاون الخليجي.
لقد قال السادات عبارته الشهيرة في الكنيست: “إن القوة ليست خير وسيلة للتعامل مع العرب”، واليوم يمكن للعرب أنفسهم أن يعكسوا السؤال: هل نحن من استوعب دروس المواجهة؟ أم أننا ما زلنا نكرر أخطاء الماضي ونترك ثغراتنا مشرعة لكل عابر؟ إن أكبر خيانة للعقل السياسي الخليجي أن يبقى غارقاً في حسابات فردية، بينما التهديدات تتسع وتتعاظم.
إن قطر ليست نقطة في آخر السطر، بل فاصلة كبيرة في نص طويل عن مستقبل الخليج، وإذا كان الماضي قد علّمنا أن الغزو يمكن أن يأتي من جار عربي أو من ميليشيا مدعومة خارجياً أو من طائرات عابرة للحدود، فإن الحاضر يفرض علينا أن نفكر بمستقبل مختلف.. مستقبل تحميه إرادة خليجية موحدة، لا مجرد صفقات تسليح تُعرض في معارض الأسلحة، المستقبل يُبنى بالعقل الجمعي، بالقرار السياسي الموحد، وبالمؤسسات التي تعرف أن السيادة ليست شعاراً، بل منظومة كاملة تبدأ من الدفاع الجوي ولا تنتهي عند الدفاع المدني.
ما جرى في الدوحة هو جرس إنذار جديد، يذكّرنا أن التحديات لا تنتظر أحداً، وأن ثلاثين عاماً من إعادة بناء المنظومة الدفاعية الخليجية لم تكن كافية إن لم تُستكمل بعقيدة ردع جماعية وبقرار موحد، وإذا لم يُطرح هذا السؤال اليوم، فقد نجد أنفسنا غداً أمام وقائع أشد مرارة، حيث لا ينفع الندم ولا تجدي المقارنات.
الدرس الأهم هو أن القطريين لم يجدوا أحدًا معهم ممن ظنّوا أنهم حلفاء، فلا الإيراني ولا التركي، بينما كان دائمًا الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، حاضرًا معهم ولهم. في الموروث العربي تُسمى هذه بالمروءة و”الفزعة”، وهي خصلة ستبقى محفورة في سيرة آل نهيان؛ فكلما استغاث عربي كان الإماراتي أول من يلبّي النداء، الشواهد على ذلك لا تنتهي، فالأفعال العظيمة لا تُقاس بالكلمات ولا تُسجَّل في دفاتر الخطابة، بل تُختبر في لحظات الشدة، من عدن إلى غزة، ومن لبنان إلى كل ساحة عربية احتاجت إلى عون، كانت الإمارات حاضرة بالفعل لا بالقول، وبالنجدة لا بالشعارات.
إنها مدرسة سياسية وأخلاقية في آن، تُعلّم أن القيادة لا تُقاس بعلو الصوت بل بقدرة الفعل، ولا بوفرة الوعود بل بصدق المواقف، ولهذا ظلّ اسم الإمارات مقرونًا بالثقة، وظلّ محمد بن زايد عنوانًا للثبات والصلابة، في زمن اختلطت فيه المصالح بالشعارات، وبات العربي يبحث عن الصدق وسط ركام الادعاءات.