فلسطين بين رمزية الاعتراف ومرارة الواقع
لا شيء يعيد فلسطين إلى الواجهة كما تفعل الدماء. السابع من أكتوبر وما تلاه من حرب على غزة لم يُفجّر الصواريخ فقط، بل فجّر معها كل المسكوت عنه في العواصم الأوروبية. فجأة، دولٌ كانت تُسمى صديقة لإسرائيل أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية. خطوة أثارت التصفيق، لكنها أقرب إلى رد فعل عاطفي منها إلى رؤية سياسية متماسكة، جاءت تحت ضغط الشارع الغاضب أكثر مما جاءت من حسابات إستراتيجية بعيدة المدى.
إسبانيا كانت السباقة أوروبيًا بخطاب متشدد ضد إسرائيل، ولحقتها فرنسا باعتراف رسمي في أيلول/سبتمبر 2025، لتكسر واحدة من أكبر المحرّمات في السياسة الأوروبية. كما انضمت بلجيكا والبرتغال ولوكسمبورغ إلى هذه الموجة، فيما مثل اعتراف بريطانيا تحولًا استراتيجيًا لافتًا، بحكم ثقلها التاريخي ودورها التقليدي في صياغة مواقف الغرب من الصراع. ومع ذلك، يبقى أثر هذه الاعترافات محدودًا ما لم يُترجم إلى سياسة أوروبية موحدة قادرة على الضغط الفعلي.
بخلاف الموقف الإسباني المحترم لم نرَ من هذه الدول قطيعة دبلوماسية مشروطة بوقف الحرب، ولا مراجعة لاتفاقيات، ولا حتى تهديدًا بالمصالح الاقتصادية أو العسكرية مع تل أبيب. كل ما رُصد كان توازنًا لفظيًا محسوبًا: إدانة علنية لإسرائيل بجرائم الحرب من جهة، وإبقاء الأبواب مشرعة أمام سفرائها من جهة أخرى، وهو ما يؤكد أن هذه الدول تستخدم سياسة العصا المرفوعة في الخطاب، واليد الممدودة في الكواليس.
لا ينبغي للفلسطينيين أن يُسرفوا في التفاؤل. الاعترافات الدولية زاد معنوي مهم، لكنها لا تبني دولة ولا تفك حصارًا. الطريق إلى الدولة لا يُعبد بالبيانات الدبلوماسية، بل بالصمود على الأرض وبالسياسة الموحدة التي تلتقط اللحظة وتحميها
في المحصلة، نحن أمام قائمة جديدة من الاعترافات الرمزية التي لا تجرؤ على الإجابة عن الأسئلة الكبرى المعلّقة: فما الموقف من القدس التي تبقى قلب الصراع؟ وما مصير المستوطنات التي تقزّم أي حديث عن دولة قابلة للحياة؟ وكيف يُطلب من الفلسطينيين بناء كيان منزوع السلاح تحت سماء يسيطر عليها الطيران الإسرائيلي وبحر تحكمه بوارج الاحتلال؟ ثم من يضمن ألا تتحول الدولة المنشودة إلى مجرد إدارة مدنية تحت وصاية مشروطة، أشبه بانتداب جديد يُلبس ثوب الدولة بينما القرار في يد المحتل؟ وماذا عن حق العودة ومصير المخيمات التي تحولت في لبنان وسوريا والأردن إلى أوطان مؤقتة منذ أكثر من سبعة عقود؟ أهي خارج معادلة الاعتراف، أم أن الدولة المرتجاة ستولد مبتورة من شعبها المشتت؟
للأسف، اعتاد الرأي العام العربي أن يُدار بميزان العاطفة، فيسحره الخطاب ويخدعه الوهم، خصوصًا حين يُضخم البعض ما يسمونه “بركات السابع من أكتوبر” وينسبون إليها موجة الاعترافات الأخيرة. غير أن هذه الاعترافات قد لا تكون سوى فصل جديد في مسرحية أممية، سرعان ما يتهاوى عند أول اختبار حقيقي: إعادة إعمار غزة. فهناك سيتضح إن كانت هذه الدول مستعدة لترجمة مواقفها السياسية إلى التزامات مالية وفنية فعلية، أم أنها ستعود إلى ذات الشروط المقيدة التي تجعل الدعم مشروطًا بإملاءات على السلطة الفلسطينية، فتُفرغ الاعتراف من جوهره وتحوّله إلى ورقة ضغط إضافية.
الحقيقة أن الواقع على الأرض هو الذي يُحدد في النهاية وزن الاعترافات وحدودها. فما لم تترجم إلى مسار سياسي واضح ومتماسك، ستظل مجرد استجابة ظرفية للحظة إنسانية استثنائية، قابلة لأن تفقد زخمها مع أول تهدئة. والامتحان الحقيقي سيبدأ حين تُسكت المدافع، وحينها فقط سيتضح إن كان الغرب مستعدًا لترجمة دموعه إلى ضغط، أم أن النفاق سيعود إلى قواعده: عناق لفظي للفلسطينيين، وتعاون عملي مع إسرائيل.
من هنا، لا ينبغي للفلسطينيين أن يُسرفوا في التفاؤل. الاعترافات الدولية زاد معنوي مهم، لكنها لا تبني دولة ولا تفك حصارًا. الطريق إلى الدولة لا يُعبد بالبيانات الدبلوماسية، بل بالصمود على الأرض وبالسياسة الموحدة التي تلتقط اللحظة وتحميها. وبين الاعتراف والخذلان مسافة قصيرة، والفلسطينيون يعرفون جيدًا أن امتحانهم الحقيقي يبدأ بعد أن تنفضّ خطابات العواصم ويعود كل طرف إلى مصالحه.