ما الذي قدمه أوسلو والطوفان للفلسطينيين

أوسلو رغم هشاشتها كانت بوابة حقيقية نحو تسوية تحفظ ماء الوجه وخيارًا قرره رجل جرّب الكفاح المسلح طويلًا ثم أيقن أن السياسة لم تعد خيارًا ثانويًّا بل هي قدر لا مفر منه.
الاثنين 2025/09/08
"غزة" على خطى بيكاسو

نحن اليوم على أعتاب الذكرى الثانية لانطلاق عملية “طوفان الأقصى”، وما تزال المفاوضات بين حماس وإسرائيل عالقة عند نقطة الصفر، لا غالب ولا مغلوب، فيما تبقى غزة وحدها الخاسر الأكبر، إذ تبتلع الحرب أبناءها بلا رحمة، بينما يصر الخطاب السياسي على تقديم ذلك كفاتورة لا بد منها في سبيل الحرية.

منذ لحظة التأسيس، رفعت حماس شعار “التحرير الكامل” بوصفه تعريفًا للذات أكثر منه برنامجًا قابلًا للقياس؛ شعار يستمد جاذبيته من العدل الأخلاقي للقضية، لكنه يصطدم في كل مرة بجيولوجيا صراع لا يشبه تجارب التحرر الكلاسيكية في العالم. فالمسألة هنا ليست احتلالًا يمكن استنزافه حتى يلين، بل بنية صلبة تتداخل فيها طبقات الدين والقومية، وتتراكب فوقها حسابات الإقليمي والدولي. عند هذا التقاطع المربك، بدا الشعار أكبر من الأدوات، وبدا الواقع أصلب من الخطابة، فظهرت الحاجة إلى براغماتية لا تُسقط السقف الرمزي، ولكنها تتعامل مع الواقع والمنطق.

جاءت مراجعة حماس في عام 2017 لوثيقة المبادئ والسياسات العامة باعتبارها محطة كاشفة أكثر منها تحولًا جذريًا؛ فالقبول بحل الدولتين لم يكن انقلابًا على الميثاق، بقدر ما كان خطوة محسوبة لتخفيف وطأة الخطاب، وإرسال رسالة للغرب بأن الحركة ليست كتلة مغلقة على ذاتها. لكن هذا التعديل ظل محكومًا بحدود التكتيك لا الإستراتيجية، إذ أبقى على شعار التحرير حيًا في الوجدان دون أن يتنازل عنه بشكل صريح يضعف شرعية الحركة أمام جمهورها. وفي النهاية، بدا الأمر وكأنه لعبة تبادل أدوار: حماس تقول إنها مستعدة للتكيف، بينما إسرائيل ترفض وتغلق الباب.

تغيير العقائد السياسية ليس بالأمر السهل، خصوصًا بالنسبة إلى حركات نشأت على فكرة المقاومة الشاملة. ومن داخل حماس نفسها، يكاد يكون مستحيلًا أن يقود أحد مراجعة جذرية تواجه الأخطاء وتضع المسؤولية في نصابها. وحتى الآن، ما زالت الحركة تعتبر ما يجري مجرد فاتورة تضحيات على الغزيين دفعها، دون أن تطرح السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يملك القطاع فعلًا القدرة على الصمود في حرب غير متكافئة بميزان قوى يميل بالكامل إلى إسرائيل؟

◄ التاريخ الأفريقي يقدم دروسًا مرة: رواندا، ليبيريا، سيراليون… كلها حروب استمرت سنوات طويلة، أكلت الأخضر واليابس، ولم تنتج سوى مآسٍ مستمرة للشعوب

يبقى السؤال المؤرق: هل كان بالإمكان تدارك ما حدث في 7 أكتوبر لو قدّرت حماس مسبقًا أن تبعات الحرب قد تكون بهذه القسوة؟ الحركة بدت وكأنها راهنت على قدرة المجتمع الدولي على احتواء الرد الإسرائيلي، أو على أن ضغوط عائلات الأسرى قد تفرض على حكومة نتنياهو الدخول في مفاوضات. لكن سوء التقدير كان فادحًا، فقد استثمرت إسرائيل اللحظة لتكريس مشروعها الأمني، بينما تحول القطاع إلى مسرح كارثة إنسانية مفتوحة.

قد يغضب البعض مما أقول، وقد يصفونه بأنه ترديد للسردية الإسرائيلية، لكن الحقيقة أقوى من أي شعار. غزة تنزف على وقع عناد أيديولوجي، وحماس ما زالت تصر على تجاهل منطق السياسة. الحرب لن تتوقف إلا بمعجزة إلهية، أو بموت جماعي، أو بانتهاء مقاتلي الحركة. هذه ليست مبالغة، بل واقع يعيشه كل بيت في غزة اليوم.

كثيرون رأوا في مسار أوسلو الخطيئة الكبرى التي ارتكبها ياسر عرفات، لأنها وضعت المشروع الوطني في مسار سياسي بلا ضمانات حقيقية. لكن إذا فتحنا قوسًا، سنجد أن أوسلو، رغم هشاشتها، كانت بوابة حقيقية نحو تسوية تحفظ ماء الوجه، وخيارًا قرره رجل جرّب الكفاح المسلح طويلًا، ثم أيقن أن السياسة لم تعد خيارًا ثانويًا، بل هي قدر لا مفر منه.

في المقابل، هل يمكن النظر إلى عملية 7 أكتوبر على أنها شجاعة مطلقة، أم أنها كانت مواجهة مع قوة عاتية بعيون معصوبة ودون خط رجعة؟ الفارق أن عرفات كان يعرف أين يبدأ وأين ينتهي، بينما حماس وضعت نفسها في مأزق لا يسمح لها لا بالانتصار الكامل، ولا بالعودة إلى الوراء. وهنا تبرز معضلة غياب الحسابات الدقيقة بين من أسرف في الثقة بالسياسة، ومن اندفع إلى أقصى القوة المسلحة بلا تصور واقعي لما بعد.

ما يجمع بين التجربتين هو غياب الحسابات الدقيقة: الذين ذهبوا إلى أوسلو أرادوا سلامًا ينهي المعاناة، لكنهم فشلوا في تحقيقه لأسباب لا يتحملونها بالضرورة. أما الذين اختاروا 7 أكتوبر، فقد اندفعوا إلى أقصى القوة المسلحة دون تصور واقعي لما سيأتي بعد ذلك. وفي الحالتين، كانت النتيجة واحدة: مأزق فلسطيني يتأرجح بين شعارات التحرير وواقع تفرضه قوى أكبر وأقدر على التحكم. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل تكفي الشجاعة وحدها لتغيير موازين القوة، أم أن غياب العقلانية يحولها إلى مغامرة خاسرة؟

التاريخ الأفريقي يقدم دروسًا مرة: رواندا، ليبيريا، سيراليون… كلها حروب استمرت سنوات طويلة، أكلت الأخضر واليابس، ولم تنتج سوى مآسٍ مستمرة للشعوب. وفي النهاية، لم يكن هناك مخرج إلا عبر تسويات صعبة، لكنها أوقفت آلة الموت. التجربة تقول إن العناد وحده لا يبني أوطانًا، وإن التسويات مهما كانت ناقصة، تظل أقل كلفة من استمرار الحرب. فهل على حماس أن تمر بالتجربة نفسها وتخسر كل شيء كي تعترف بأن لا مفر من السياسة؟

 

اقرأ أيضا:

      • الهندسة الديموغرافية الإسرائيلية: هل الأردن هو الهدف النهائي

8